تتعاظم الشراكة في الدول المتقدمة بين مؤسسات المجتمع ومؤسسات البحث العلمي، انطلاقاً مما تحققه تلك الشراكة من عائدات ذات علاقة مباشرة بكيان الدولة وبحياة الإنسان ومتطلباته المستقبلية. إذ إن أصل التقدم نابع من هذا التوظيف الذي يجري ما بين مؤسسات المجتمع ومؤسسات البحث العلمي خاصة في مجالات العلوم والتقنية وتطوير الموارد البشرية.
تتمثل تلك الشراكة في بناء قدرة وطنية تنافسية متجددة، تُمكنها من زيادة تسارع عجلة التطور والتقدم في مجتمعاتها، وبناء موارد بشرية قادرة على الابتكار والإبداع والإنتاج الفكري المتجدد. وتحقيقاً لهذا الهدف فإن الدول المتقدمة تضع البحث العلمي في مقدمة الأوليات وتخصص له ميزانيات ضخمة، حيث تتصدر دول العالم كل من الولايات المتحدة الأمريكية، واليابان، وألمانيا، وكوريا الجنوبية من حيث إنفاقها على البحث العلمي.
كما تعمد تلك الدول على توفير مزيد من الدعم للباحثين بما يعزز قدراتهم البحثية، ويهيئ البيئة الملائمة لتفعيل عطائهم، وتبني نتائج أبحاثهم من قبل القطاعين الحكومي والخاص، إضافة إلى توسيع مساحة البحوث التطويرية الممولة من الحكومة ومن شركات ومؤسسات القطاع الخاص التي تشكل عصب البحث العلمي في تلك الدول.
تنبهت الدول الصناعية وعديد من الدول حديثة التصنيع إلى أهمية دعم البحث العلمي والتنمية التكنولوجية بصفتهما السبيل الأوحد للتنمية. وقد أثمرت تلك السياسات عن حدوث طفرات هائلة في الإنتاج والخدمات والعكس صحيح في الدول النامية، ومن بينها الدول العربية حيث تعتمد على استيراد التكنولوجيا كوسيلة للإسراع من التنمية الاقتصادية والاجتماعية. ولا شك أن التخلف في استنباط التكنولوجيا وتطويرها يكون مرتبطا بغياب البحث العلمي.
تعاني الدول النامية من انخفاض الإنفاق على البحث العلمي وضعف الترابط بين مؤسسات المجتمع ومؤسسات البحث العلمي، مما يؤدى إلى تشتت الجهود البحثية وانخفاض عائداتها. ويعاني البحث العلمي أيضاً من شح الموارد والإمكانات، ومن وجوده في أسفل قائمة الأوليات الاستراتيجية.
معظم الجهود البحثية مازالت توجه إلى البحوث الأساسية ونسبة ضئيلة منها إلى البحوث التطبيقية، فضلاً عن غياب الدعم والمؤازرة للباحث. وكذلك من غياب سياسات واضحة المعالم توجه جهود العاملين في مؤسسات البحث العلمي، فالسياسيات الحالية للبحث العلمي على مستوى الوطن العربي هي في أحسن الأحوال سياسات مؤسسات منعزلة وغير منسقة وليست سياسات دول في إطار مخططات التنمية وبرامجها.
ناهيك عن أن غالبية البحوث القائمة لا تخدم مشكلات المجتمع ولا تلبي متطلباته، ولا سيما أن غالبيتها نتاج لجهد فردي في الغالب يهدف إلى ترقيات علمية. إضافة إلى محدودية الاستفادة من نتائج البحوث والدراسات المتاحة، وسوء التنسيق بين مؤسسات المجتمع من جهة ومراكز البحوث والتطوير من جهة أخرى. علاوة على الشح في المعلومات عن البحث والتطوير، وندرة الخبرات الرفيعة في مجال البحث وضعف في وعي المجتمع بأهمية البحث، كذلك ضعف في الطلب الفعال على أعمال البحث.
لا غرو أن يكون إدراك رجال الأعمال وبعض قطاعات المجتمع الأخرى لأهمية وضرورة البحث العلمي ضعيفاً، نتيجة لنظرتهم القاصرة والمحدودة تجاه استشراف الناتج البعيد لثمار ومخرجات البحوث، وتأثيرها في جميع مجالات الحـيـاة.
ترتب على هذه الظاهرة ترسيخ النمط الهامشي للبحث العلمي في الدول النامية، وزيادة الفجوة بينها وبين الدول المتقدمة في هذا المجال. كما أن البحث العلمي يعاني من نظام تسويق للنتائج غير فعال ، ومن عدم وجود سياسة تلزم المؤسسات الحكومية الاستعانة بالجهات الحكومية والكفاءات الوطنية لتنفيذ البحوث، ومن قلة الموارد المتاحة لتمويل الأبحاث.
وبصفة عامة مازالت الدول النامية تعاني من قصور في مفهوم البحث، وهناك عدم اهتمام واضح في دعمه المادي والبشري. ويمتد القصور أيضاً إلى عدم وجود استراتيجية واضحة ومتكاملة للبحث، وبيئة البحث العلمي ليست جاذبة للباحثين الأكفاء، وضعف التنسيق وغيابه بين مؤسسات البحث والقطاعات المستفيدة، وغياب دور القطاع الخاص في تمويل الأبحاث فما زالت الحكومة هي الممول الوحيد لها.
تشير الإحصاءات ذات العلاقة بالبحوث والتطوير على المستوى الوطني بأن أنشطة البحوث والتطوير المتخصصة في المملكة بدأت منذ ما يزيد على عقدين من الزمن في عام 1397هـ، من خلال إنشاء مراكز بحثية متخصصة، من أهمها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية، وبهدف الرقي بمستوى البحوث والتطوير في المملكة قامت المدينة بإيجاد برامج منح متعددة لدعم البحوث العلمية والتقنية التي تخدم أغراض التنمية في المملكة.
إلا أن تلك البرامج لم تتم الاستفادة منها كما ينبغي. كما أن منح براءات الاختراع التي تمنحها مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية تكاد تخلو من براءات اختراع في الجوانب التقنية الدقيقة.
يبدو أن أحد عوامل الضعف المتأصلة يتمثل في تدنى مستوى التواصل بين مراكز البحوث والجهات المستفيدة من مخرجاتها ، مما أدى إلى عدم فهم المشكلات التي تتطلب البحث والتحليل.
على الرغم من وجود المقار الرئيسة للعديد من مراكز البحوث في مدينة الرياض، إلا أن ذلك لم يساعد على تفعيل الترابط فيما بينها، وفيما بينها وبين الجهات المستفيدة. علماً بأن مركزتها لا يعد من الأمور المحمودة لما في ذلك من تأثير على مستوى التباين التنموي بين مناطق المملكة الإدارية الثلاث عشرة.
علاوة على ذلك فإن بعض مراكز البحوث تعاني من ضعف في هياكلها التنظيمية، ناهيك عن عدم وجود استراتيجية أو خطة بحثية تحدد أولوياتها البحثية وكيفية تنسيق أنشطتها. إضافة إلى غياب جهة محددة لإدارة أعمال تلك المراكز والتنسيق فيما بينها.
وعلى الرغم مما يتوافر في المملكة من مراكز وهيئات موجهة لخدمة البحث والتطوير في شتى المجالات فإن التعاون بينها يكاد يكون مفقوداً، وإن وجد نظرياً ، فقلما يترجم إلى خطوات عملية على أرض الواقع . ولا شك أن في هذا هدرا للطاقات والأموال، وإنجاز بحوث مكررة، وعدم استفادة كل جهة بما يتوافر لدى الجهات الأخرى.
في ضوء هذا الوضع فإن الجهد الموجه لأنشطة البحث والتطوير في الوقت الراهن لم يرق إلى المستوى المأمول الذي يساعد على توطين التقنيات الحديثة ويحقق الاستفادة منها، خاصة إذا ما علمنا أن المشكلات الحرجة يتطلب التعامل معها استخدام تقنيات متقدمة. وقد ترتب على وجود هذه الظاهرة اعتماد الوطن على التقنيات المستوردة التي يتحكم فيها مالكها.
في هذا السياق فقد تم تصميم نموذج (شكل رقم 2) يجسد الوضع الراهن لأنشطة البحوث والتطوير في المملكة العربية السعودية، بهدف توضيح العلاقة الراهنة التي تعكس أبعاد المشكلة مدار البحث.
والذي يبين أن سياسات وأنظمة ودعم البحث والتطوير تصدر من جهات تخطيط وإدارة البحث العلمي والتقني إلى مراكز البحوث والتطوير الحكومية مباشرة، التي بدورها تستعين بخبراء ومراكز بحوث خاصة وأجنبية.
بينما تصدر من جهات تخطيط وإدارة البحث العلمي والتقني توجهات علمية وتقنية عامة للأجهزة الأمنية التي بدورها تبعث باحتياجاتها البحثية لمراكز البحوث الأمنية في شكل مشكلات وقضايا أمنية تتبناها تلك المراكز وقد تستعين باستشارات وتقنيات خارجية لدراستها واقتراح حلولها ثم تعيدها للأجهزة الأمنية في صيغة حلول استشارية تفتقد للتغذية الراجعة.
يظهر من النموذج أنه يمكن أن تستعين الأجهزة الأمنية بمراكز البحوث والتطوير الأخرى للحصول على استشارات في بعض النواحي الفنية، ثم تتلقى الإجابة في هيئة حلول فنية محدودة لا تعقبها تغذية راجعة. كما يوضح النموذج أيضاً الحلقة المفقودة بين مراكز البحوث والتطوير ومراكز البحوث الأمنية التي تبدو في شكل علامة استفهام تجسد عمق المشكلة وتبين أبعادها.