أذكر ونحن صغار أنّ البيت الواحد يسكن فيه ثلاث أو أربع وربما خمس أُسر أو أكثر، الأب والأم والصغار، والأبناء «الإخوة» الكبار الذين تزوّجوا ورزقهم الرب ببنين وبنات، ومع بدايات الطفرة وميلاد صندوق التنمية العقارية في 11 جمادي الآخر 1394هـ، بدأ الوضع يتغير شيئاً فشيئاً في خارطة العائلة السعودية الواحدة حتى صار الشاب حين يريد أن يتزوج يشترط عليه أهل البنت «المخطوبة» أن تكون بنتهم في بيت أو شقة لوحدها. وبالفعل صار نسبة كبيرة من الشباب يستقلون في أُسر ذرية منذ بداية حياتهم الجديدة، الأمر الذي أدى إلى تلاشي الأُسرة الممتدة في المجتمع السعودي في غالبية المناطق ذات الخصوصية المدنية، التي ولدت صعوبة التواصل الحقيقي، نظراً لانشغال الكل وزحمة الطرق واتساع المدينة.
وفي ظل الوضع الذي لا يخفى في مجتمعنا المعاصر، وجراء صعوبة تكاليف الحياة على البعض من أفراد هذه الأُسرة أو تلك، وامتداداً لما عُرف عن العائلة السعودية من تكاتف وتآلف وتواد ووفاء زمن الفقر والمسغبة حيث الجوع وقلة ذات اليد و...، لذا فقد تنادى العقلاء في عدد من الأُسر السعودية سواء في الرياض أو جده أو المنطقة الشرقية أو أبها والقصيم وحائل والجوف و.... لوضع صندوق للعائلة له صبغة «الخيرية» وقد يكون لهدف الاستثمار.. يقتطع من جميع أفراد العائلة البالغين مبلغ من المال سواء أكان ذلك الاقتطاع شهرياً أو ربع أو نصف أو كان سنوياً ويودع المبلغ المتحصل عليه في حساب أمين الصندوق أو أحد أعضاء مجلس الإدارة الذي اختير من قِبل كبار السن في العائلة، وقد يكون هو من نصب نفسه وانبرى لهذا الأمر.
مع مرور الأعوام.. وكثرة الأبناء البالغين الذين التحقوا بوظائف وتزوجوا وأسسوا لهم بيوتهم المستقلة، فصار من الواجب عليهم دفع الاشتراك السنوي في هذا الصندوق، إضافة إلى العائد من الاستثمار لجزء من المال المودع في أحد البنوك السعودية، سواء أكان العائد جراء بيع جزء من الأسهم أو الحصول على أرباحها السنوية أو الأراضي بعد بيعها حين ارتفع سعرها أو... أقول مع هذه الزيادة صار لازماً التفكير الجدي في وضع نظام رسمي للصناديق العائلية تابع لوزارة الشئون الاجتماعية وتحت إشرافها، ينص هذا النظام المقترح على عظم التكاتف والتعاون بين الأهل والأقارب، ويحث على وجوب تسجيل الصندوق لدى الوزارة، مع الإشارة إلى أنّ هذا لا يعني التدخل في شؤون العائلة الخاصة، إلاّ أنّ التسجيل لدى فرع الوزارة سيسهل على المعنيين بالأمر والقائمين على إدارة هذه الصناديق فتح حسابات رسمية باسم الصندوق، وسيتيح لهم الدخول في مجالات استثمارية عديدة وإنشاء مؤسسات وشركات محدودة مثلاً، وستسهل مراقبته ومتابعته، إضافة إلى أنه سيبعث الثقة ويولد الطمأنينة عند جميع أفراد العائلة، الأمر الذي من شأنه الالتزام بالدفع من الجميع بشكل طوعي ودقيق، كما أنّ هذا التقنين سيقي العوائل ما قد يحدث من خلاف لا سمح الله بعد وفاة من جمعت الأموال في حساب بنكي باسمه، أو حين سفره سفراً طويلاً، فضلاً عن أنّ هذا النظام المرتجى يقي العوائل الفرقة والاختلاف، جراء ما قد ينشأ من تغير حال هذا الرجال الذي أودعت الأموال في حسابه، حين يظن البعض أنّ هذا النعيم الذي هو فيه صار إليه من استثماره فيما هو أمانة عنده.
إنّ الصناديق الأُسرية وما يُجمع من قِبل أفراد العائلة أو القبيلة، سواء لدفع الدية أو من أجل الحصول على تنازل والد القتيل وأمه وإخوته، أو لإعانة راغب إعفاف نفسه أو لمن شيد منزلاً جديداً أو من صارت عنده مناسبة كبيرة مثل فيها أهله وذووه أو... ليس من السلامة أن يظل الأمر في نظري على ما هو عليه الآن، وقبل أن يلحق بوزارة الشئون الاجتماعية ويقنن كما أشرت أعلاه، يحتاج إلى دراسة مسحية تتوصل إلى حصر شبه شامل لهذه الصناديق ومركزها المالي وكيف تدار، وأين تستثمر، وتستمع إلى ما يظنه القائمون عليها مناسباً لضمان استمراريتها وفاعليتها وقوّتها وقدرتها للمنافسة في السوق المحلي، وعندي يقين أنها ستجد العجب، وما يدريك لعل هذه الصناديق تكون من أبواب الخير الذي يساعد في تقليل حجم البطالة في الأسرة، وقد يكون الطريق الأمثل لتعزيز الجمعيات التعاونية التابعة لوزارة الشئون الاجتماعية.
أتمنى ألاّ يُفهم من كلامي هذا أنني أتهم أو أخون أو حتى أخشى، ولكن وجود المرجعية والتقنين لمثل هذه المشاريع الرائدة والرائعة التي يصل رأس مال بعضها الملايين وربما الدعم والمؤازرة من قِبل الدولة في قادم الأيام، أمر مطلوب وبه تتحقق السلامة وتنطفئ جمرة الحسد حين تشتعل لدى البعض وتصفو النفوس، ويكون الأمر متيقناً ولا يتأثر بموت أحد أو رحيله، دمتم بخير وتقبلوا صادق الود والسلام.