الرقيب

في داخل كل منا ضمير يعتريه المرض وربما أصيب بالموت.. و للمجتمع ضميره الذي يسائلنا و يصدر أحكامه فينا، والتي قد تكون قاسية أحياناً وربما عاقبنا عقاباً لا نطيقه.. ومع أن ضمير المجتمع ليس هو بالضرورة مجموع ضمائر أفراد هذا المجتمع أو ذاك، إلا أن القناعة المجتمعية قد تأتي بأثرها العكسي على ذواتنا الفردية، فنطلق أحكاماً شخصية هي وليدة قناعات ومسلمات مرت بأجيال متتالية حتى استقرت في أذهاننا مع أنها لا تمثل الحقيقة، وليست موصلة إلى أهدافنا السامية التي ننشدها ونتطلع لها، ولا هي نتاج تفكير ونظر وتأمل عشناه بعيداً عن صوت المجتمع الذي به نحيا، بل ربما العكس تماماً فالأمثلة الشعبية والحكم المتداولة والتي يعدها البعض منا وليدة التجربة والخبرة ربما صارت وهي تمارس دور الرقيب معيقاً حقيقياً لاكتمال فعلنا التنموي والقيام بواجباتنا الوظيفية.

إن الرقيب الحي أمر مطلوب، والمجتمع ذو الضمير الإيجابي أشد ما نكون حاجة له في عالم اليوم، ولكن من يعيد لضمائر مجتمعاتنا العربية جوهرها الحقيقي بعيداً عن الشكليات وفي إطار بناء الكينونة التي تختلف عن التملك تماماً.

لقد عاش أجيال من إنسان الوطن العربي تحت نير عادات وتقاليد هي اليوم محل سجال «أخذ ورد» «مد وجزر» حتى صارت مجرد صفحة طويت من أوراق تراث الماضي عند البعض، وفي دائرة المسموح به عند البعض الآخر، والثالث منا ما زال يحاور حولها ويدندن محاولاً جهده التخلص منها.

ومع قناعتي التامة بأن غير المقدس من تراثنا القولي والفعلي يحتاج إلى التفكير فيه، ونقله من دائرة المهمش إلى المتن، وتسليط الضوء عليه بكل موضوعية وحيادية وأمانة ومصداقية إلا أنني أجزم أن شيئاً من ذلك لا يكون حتى ينبري لهذا الفعل التغييري أصحاب الرأي السديد والرؤية الناضجة والنظرة العميقة وفي الوقت المناسب، فما يصلح اليوم دراسة ومجاهرة وتغييراً قد لا يكون ملائماً للأمس، وربما يكون أكثر ملاءمة في قادم الأيام.

نعم ما زلت أدور حول الحمى، ومع أن البعض قد يسقط كلامي هذا على موضوع بعينه، وربما يصيب عين الحقيقة، وقد يفشل في الوصول إلى الباعث الذي كان سبباً في الحديث عن الموضوع بالذات وفي هذا الوقت على وجه الخصوص.. لا يهم فهو لا يعدو أن يكون مدخلاً وتمهيداً لمعالجة منهجية التفكير في رقيبنا الاجتماعي.

كثيرون هم أولئك الذين ما زالوا يحسبون لجماعة المسجد وللجيران وللأقارب وربما لمديريهم ومسؤوليهم حسابات تفوق بكثير استشعارهم لرقابة الله عزَّ وجل، وهذا نابع من السلطوية المجتمعية التي لن أعلن عليها التمرد في هذا المقال ولا في غيره، إلا أنني أردت هنا بيان أن هذا النوع من التحكم الجائر من قبل سلطة المجتمع أقصت صوت الحق عند عدد من أبنائنا وأجهضت مشاريع الإبداع لدى آخرين ونالت من استقلالية الثلث الثالث وكل هذا في النهاية قتل للضمير الفرد.

نعم الحياء أمر مطلوب شرعاً وعرفاً ولكن هذا النوع من السلوك الحياتي لا يمنعك من أن تشق طريقك نحو القمة وترتقي سلم النجاح وصولاً للمجد، كما أنه لا يقف عائقاً أمام الضرب في الأرض طلباً للرزق الحلال ولو تأخذ حبلاً فتحتطب.

لقد أظهر عنتر بسالته وشجاعته حين قال له والده «كُر وانت حر» فلنعط ولنمنح الجيل الجديد مساحة من الحرية فيما هو خارج المقدس والمجمع عليه، والمفتى فيه من قبل علماء الأمة الربانيين، ولنراقبهم دون أن تكون هذه المراقبة معيقاً حقيقياً أمام نبوغهم وتفوقهم.

إننا في زمن يتجاوز مراقبة الآخر إلى واجب غرس الرقيب الذاتي داخل النفس البشرية و هذا هو التحدي الذي به يستطيع إنسان العصر أن يميز بين الخير والشر، وأن يجعل هناك توافقاً حقيقياً بين ما يكنه في ذاته وما يريد أن يكون عليه مجتمعه.

ضبابية الطرح لهذا الموضوع ليست مقصودة لذاتها وإنما هي منهجية أفضل لأن يقرأ كل منا هذه السطور بناءً على المرجعية التي ينطلق منها والمعطيات والأمثلة التي يحملها في ذهنيته ويحاور نفسه حولها.

عاش الرقيب حين يكون حياً داخل ضمائرنا.. وعاش مجتمعنا حين يقدر للضمير الحي قدره وينزله منزله وينصت له عندما يصدع بصوت الحق بلا مواربة أو مجاملة أو تخوين.

دمتم بخير وتقبلوا جميعاً صادق الود وكل عام وأنتم بخير وإلى لقاء والسلام.