التطرف نقيض الاعتدال، أو هو النقطة البعيدة التي تنتهي بها المسافة، أو المدى البعيد الأقصى لآخر نغمة في الصوت، أو الحكم الشاط المعاكس للمنطق، أو السلوك الغريب اللافت المثير للتساؤل الذي يخرج عن المتعارف عليه وما يتفق مع المنطق والقيم والخلق الكريم.
كل هذه التحديدات قد تكون صحيحة وقد لا تكون دقيقة كل الدقة؛ بيد أنها ربما تبين عن شخصية من ينفلت منه زمام العقل السوي ويذهب بعيداً مشرقاً أو مغرباً في أحكامه ورؤاه ومعتقداته وسلوكه.
لكن الأمر الذي يستوقف أي باحث جاد يتغيا الوصول إلى أسباب منطقية مقبولة ومقنعة لتخلق التطرف في النفس؛ هو البحث عن الدوافع والأسباب لتكون الشخصية المتطرفة؟
ربما يفاجئنا شخص ممن حولنا بانقلابه فجأة على نفسه ومجتمعه فيصبح اليوم شخصاً آخر غيره بالأمس، وربما يغيب عنا فلان من الناس فترة من الزمن قد تطول أو تقصر ثم لا نكاد نعرفه لا في آرائه ولا في صورته الخارجية!
ماذا جرى لمن كان بالأمس سمحاً معتدلاً ثم غدا اليوم شاطاً متطرفاً؟
من الضرورة الملحة في سياق هذه التساؤلات أن نتفق على الملامح العامة لحدود مصطلح «الاعتدال» ومصطلح «التطرف» أي أن تبدو الصفات المتكاثرة في شخصية من النوع الأول واضحة كل الوضوح وكذلك الأمر في الشخصية الثانية؛ وإلا سنجد اختلافاً إن لم يكن نزاعاً قوياً بين رؤى كثيرة قد لا تتفق معي في من أصفه بالاعتدال، كما سنجد آراء كثيرة قد لا تتفق أيضاً معي في من أصفه بالتطرف!
ومن هنا قدمت مفتتحاً لمقالتي بمحاولة لتعريف الشخصيتين وتحديد شيء ولو قليل من ملامحهما قبل الدخول في البحث عن الأسباب الدافعة إلى تجلي التطرف وهيمنته على الشخصية المتطرفة؛ بحيث تتفق الكثرة الكاثرة على أنه كذلك ولا تتنازع الحكم عليه بهذه الصفة الذميمة.
ربما لم نلتفت ونحن نتعايش مع كثيرين ممن مروا بنا أو مررنا بهم وتعايشنا معهم فترة من الزمن إلى أن لديهم بذوراً كامنة في شخصياتهم تجعلهم عجائن لينة طرية قابلة للقولبة والتصريف والاستقطاب إلى الدائرة الضيقة الخانقة في الحياة التي جعلتهم - بعد أن ولجوا إليها بأقدامهم عن طواعية ورضا - لا ينظرون إلى الحياة والأحياء إلا من كوة هي أشد ضيقاً من سم الخياط!
وبتأمل في تكوين كثيرين ممن كانت لديهم القابلية للاستقطاب والسقوط في شباك التطرف نجد أن بعضهم كان قليل الاطلاع على المعارف والثقافات والأفكار ولم يكن الكتاب ولا وسائل المعرفة أحد اهتماماته، أو أن بعضهم كان في أسرة مشتتة مضطربة تعاني من عدم الاستقرار والنزاعات، وربما حدث انفصال بين أمه وأبيه وعاش في جو أسري خانق، أو أن بعضهم لم يوله والده شيئاً من اهتمام؛ فيقوم منه ما أعوج من رأي أو سلوك؛ لانشغال والده بأعماله أو أسفاره أو ربما لفساد والده، أو أن بعضهم انساق خلف هوى نفسه وصادفه في مطلع شبابه ثلة فاسدة فأغوته وأوقعته في الرذائل والموبقات ثم استيقظ فجأة من غيه بعد ضغط شديد من تأنيب الضمير وأراد أن يكفر عن سيئاته فانقلب إلى الضد، أو أن بعضهم نشأ في جو مثالي نظيف ولم تشبه في حياته شائبة من انحراف أو اضطراب في سلوكه؛ فكان لفرط طيبته أرضاً خصبة قابلة لاستنبات أحلام طوباوية مثالية عن استعادة أمجاد تاريخية ماضية في العهود الغابرة السحيقة، والسعي إلى مقارعة الحضارات الأخرى المتغلبة المتسيدة الآن، والاجتهاد في أطر الناس كلهم أطراً على ما يؤمن به ويرى أنه الحق، ثم لا يجد مفراً لتحقيق تلك الأحلام إلا بالاستسلام إلى من يقوده من أمراء الجماعات المتطرفة التي يتفق معها في الرؤية والمنهج؛ كجماعات التكفير والهجرة وغيرها ومن لف لفها!
للتطرف أسباب تخلق مرض التطرف ويظل كامناً في بعض النفوس ينتظر من يثيره ويستخدمه ليس إلا!