تقود أمريكا هذه الأيام تكوين جبهة دولية قوية موحدة تحتمل فيها كل دولة ما تستطيع من أعباء للنهوض بتكاليف أعباء الحرب المزمعة على تنظيم داعش كما يطلق عليه كارهوه، أو ما يعرف بـ «دولة الخلافة الإسلامية» كما تسمي نفسها وما ينعته بها محبوها، والحق أنها ليست لا دولة ولا خلافة ولا حتى تنظيما مدنيا يمكن أن تتشكل منه دولة مدنية؛ بل هي أقرب ما تكون إلى تجمع ميلشيات أو عصابات تعتمد أسلوب الخلايا والكتائب، وتبني فصائلها على منطق التكتم الشديد والسرية المطلقة في أسماء القيادات وصلاحياتها وتحركاتها؛ بل حتى على مستوى الأفراد العاديين الذي يلغي التنظيم أسماءهم الحقيقية ويمنحهم ألقابا أخرى ثنائية تبدأ بـ «أبو فلان» وتنتهي بالانتماء إلى الإقليم الأصلي الذي تسرب منه إلى العضو.
ليست دولة بمعنى الدولة، وإن اجتهد قادتها في أن يأخذ تجمع العصابات من كل فج عميق شكل الدولة!
ليست دولة؛ بل فصائل ذات مخالب حادة، تفسر العدالة كما تشاء، وتفصل حكم القضاء كما تهوى، وتقيم أحكام الدين كما تزعم؛ فلا قانون أو نظام أو دستور يحكم من دهمتهم فصائلها وأحكمت عليهم قبضتها؛ فقد يذهبون قتلى في اللحظة والتو حتى ولو لم يعرف انتماؤهم، وقد يساقون أسرى لا إلى المخافر؛ بل إلى المقابر، وقد يعزل الرجال العاجزون فيسرحون ويؤتى بالشبان القادرين فيقتلون، وقد يصطف النساء حسب أعمارهن وجمالهن فيحكم على من وقع عليه الاختيار منهن بالسبي فيصبحن جواري وسبايا فور إطلاق الحكم عليهن من أمير الكتيبة، وربما تناقلتهن الأيادي بزواج إثر زواج إلى أن ينتهي بعضهن إلى البيع في سوق النخاسة كما حدث للأزيديات!
هكذا هي دولة العصابات حين تنشأ بسرية، وتكبر من السلب والنهب، وتتضخم وتتمدد وتتوسع على حساب ضعف المجاورين وسلبيتهم أو نزاعاتهم؛ كما هي الحال في الشام والعراق، وهكذا يستخدم زعماء الفصائل الشعارات الدينية التي تخلب ألباب العاطفيين والمثاليين والأتقياء والفجار معا، الأتقياء ليزدادوا تقوى فيدخلوا الجنة ويحظوا بالحور العين كما يحلمون، والفجار ليكفروا عن ذنوبهم وموبقاتهم وينالوا ما يناله الأتقياء الزاهدون، وقد ينضم إلى الفصائل أيضا من ليس برا تقيا ولا آثما فاجرا ليجد ذاته المضيعة الهائمة دون عمل أو صنعة أو وجود، أو ليبحث عن دور لم يتسن له في الحياة الطبيعية في دياره؛ فتتاح لشجاعة بعضهم أو إقدامه وجسارته فرص القيادة أو الخطابة أو التوجيه أو الأمر والنهي؛ هكذا هي تشكيلة الفصائل التي تدير ولايات ما يسمى بالدولة على النحو الآنف من استبداد الشهوة وتسلط التراكمات النفسية وغلبة العواطف وتحكم ضيق الأفق في فهم قيم الدين وتغلغل المفهومات العقدية المنحرفة على النفوس؛ فيتساهلون في إطلاق أحكام التكفير ليشرعن لهم مفتوهم الشرعيون هذا الحكم العقدي الجائر باستحلال الدم أو العرض أو المال!
فصائل أنشأها المجاهيل ويتولى تنفيذ إداراتها - إذا تجوزنا في النظر إلى أنها إدارات - مجاهيل وغرباء عن البقاع العربية لغة وتقاليد ومفهومات ؛ كما هم المتقاطرون إلى داعش من كل أنحاء الدنيا! لقد كونت أمريكا مثل هذه المجاميع بادئ ذي بدء في البقاع والوديان والجبال الأفغانية لتصد بهم الروس وتفشل غزوهم أفغانستان، ثم استخدمت من بقي منهم في أغراض سياسية متعددة، ولكن أحلام من كبرتهم وسمنتهم ومنحتهم السلاح والمال والنفوذ قد كبرت أيضا فامتدت مطامع القاعدة إلى أسيادها وابتدأ الكلب يعض سيده وضربوا الأبراج؛ فانقضت عليهم أمهم أمريكا وصبت عليهم الحديد والنار ومزقتهم شر ممزق، وأودعت من نجا منهم من الموت سجون جوانتانامو وأبي غريب، ولكنها رأت أنه يمكن ثانية الإفادة منهم في تحقيق مخطط الشرق الأوسط الجديد فتبنت النواة الأولى لداعش التي كبرت أيضا أحلامها حتى أعلنت أمريكا الآن عليها الحرب؛ فما نهاية هذا السيناريو المرعب؟!