مَنِ المُراد بالناس من الثَّقلَين؟
مِن معاني (النَّوْسِ) اُسْتُعِير لقبُ (ذو نُوَاسٍ) لذؤابة كانت تنوس كما مَرَّ ذِكره، وجاء تعيينُه بأنه ذو مُعاهِر تُبَّعٌ الحميريُّ.. وذكر أبو حنيفة الدِّيْنَوَرِّي في كتابه عن النبات العِنبَ النُّؤَاسيَّ، ووصفه بأنه عنبٌ أبيضُ عظيمُ العناقيدِ، مُدحْرَجُ الحَبِّ، وأنه كثير الماء، وأنه حُلْوٌ جيِّدُ الزبيب ينبتُ بالسَّراة، وقد ينبتُ بغيرها.. وقد تردَّد الأزهري في كتابه (تهذيب اللغة) في تعيين سِرِّ إضافته بنسبته إلى النُّؤََاسيِّ، وقال: ((إلا أن يكون من النسب إلى نفسه كداوَّارٍ ودوَّاريٍّ وإن لم يُسْمَع النُواسُ هنا)).
قال أبو عبدالرحمن: الدَوَّار عُرِف وعُلِم أنَّ دأْبَه الدُّوَارُ؛ فَنُسب إلى ماهو عليه مِن الدَّأَب؛ فقيل (دُوارِيُّ).. وأما (النُّؤَاسي) فلا يُعْلمُ للعنب عادةٌ في النَّوْسِ يَتَمَيَّز بها؛ فُعلِمَ أنه منسوبٌ إلى ذي نُؤَاسٍ، وأرجح شيىءٍ عندي أنه نسبةٌ إلى الشاعر الماجن (ذي نُؤُاسٍ)؛ لشهرته في التُّراث العربي باصطفاء هذا النوع من العنب لمجونه في الشرب ولاسيما في (الباطِيَّة) التي أَعَدَّها لذلك.. وقول الأزهري: ((وإنْ لم يُسْمَع النَّوُّاسُ هنا)): أنه ينسب العِنبَ النُّؤَاسيَّ إلى نفسه وإنْ لم يُسْمَع المَنْسُوبُ إليه [ أي النُّؤَسيُّ]، وهذا تعليلٌ بارد؛ لأنه تعليل بلا سبب؛ وإنما هو تعليل بمُحْتَمَلٍ، والاحتمالُ المُطلق لا يقتضِيْ التعليلَ بِمُعَيَّنٍ؛ بل يقتضي التوقُّف؛ للجهل بالمُتَعَيِّن.
وجاء الوصْفُ بالنُّؤَاسِيِّ وصفاً للمُسْتَرْخي من الرجال على التشبيه بالمُسْتَرْخِي من الأشياء؛ لأن المسترخي ينوس، ويُحَرِّكه ما يزيده نَوْساً كالريح الخفيفةِ، و(النَّوَّاسُ) اسم الصحابي النَّوَّاسِ بن سمعان الكلابي، وله ولأبيه صحبةٌ رضي الله عنهما، والاسم عادة يكون منذ الولادة، ومن المُحال أنْ يُسمَّى المَولودُ بوصفٍ لم يَتَّصِفْ به بعدُ؛ فلا احتمالَ إلا أن يكون الوصفُ بصفةٍ محمودةٍ في بعض الأشياء؛ - لأن العرب يجعلون أسماءهم فأْلَاً لَهم -، أو صفةٍ مَذْمومةٍ في بعض الأشياء؛ لأن العربَ يجعلون مِن أسمائهم ما هو شُؤْمٌ على أعدائهم.. والمُحَقَّقُ عندي أنه سُمِّيَ (النَّوَّاس) تفاؤلاً بجدِّه (قيسِ بن عيلان) الذي توارثَتْ ذريَّتُه مَفاخِرَه كما سيأتي بعد قليلٍ تحقيقُه.. وسواء أكان أبو عَيْلانَ اسمه (الناسُ)، أو اسم ابنِ عَيْلانَ قَيِسْاً: فإن التسمية لها تعليل يبرز إن شاء الله في نهاية تحقيق المسألة، والأظهرُ عندي الآن أن تعليلَ اسم (قيس) التفاؤلُ بأنه سيكون ذا حصافةَ عَقْلِيةٍ في ممارسةِ أموره بأناة وتفكير يزِن الأمورَ بالترجيحٍ مِن مقايسته الفكرية، ويشهد لذلك شعر جرير.. وانظر تخريج أحاديثهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب (المُسْنَدُ المُصَنَّف المُعَّللُ) للعَّلامَةِ الدكتور بشَّار عواد معروف وزملائه مَتَّعنا الله بوجودهم 25/333-344.. وفي الصحاح للجوهوي أنَّ (النَّاس) قد يكون من الجنِّ والإنس جَمْعُ (إنس).. أصلُه (أُناس)، وهو جَمْعٌ عزيزٌ أٌدْخِل عليه (اَلْ)، وقال الشهاب في شرحه (القاموس المحيط) المعروف بـ(إضاءةُ الناموس): وكونُ أصلِه (أُناساً) ينافيه جعلُه من (نَوَسَ) فتأمَّل.
قال أبو عبدالرحمن: (الناسُ) عَلَمٌ على الإنس والجن بيقين كما مَرَّ، والتعبير بقد يكون كذلك (أي قد يكون من الجن والإنس) قاصِر في التعبير عن اليقينيِّ، وليست (الناسُ) جَمْعَ (إنسْ)، بل هي جمعُ (النوْسِ) التي فعلها الماضي (ناسَ)، والاسم منه النَّوْسُ واويُّ الوسط انْقَلَبتْ ألفه واواً؛ فتنبيهُ صاحب (إضاءةُ الراموس) تنبيهٌ على عينِ الحقيقة، ولو قال: (ليست الناسُ مِن الإنس بل مِن النوْس) لكان أبلغ.. وقال الجوهريُّ في الصحاح: ((لم يجعلوا الألِفَ واللامَ عِوضاً عن الهمزة المحذوفة)).. يعني الألف المهموزة في (الإنْسِ)، وقال بعد ذلك مباشرة: ((لأنه لو كان كذلك لَاجْتَمعَ مع المُعَوَّضِ منه في قول الشاعر:
إنَّ المَنايَا يَطَّلِعْنَ
(م) على الأُنَاسِ الآمِنِينَا
وآخِرُه:
فيَدَعْنَهُمْ شَتَّى وقَدْ
كانُوا جميعاً وَافِرِينَا
قال أبو عبدالرحمن: البيتان مِن مجزوء (الكامل)، ونَسَبه الصاغاني في كتابه (العُبابُ) إلى (ذي جَدَنٍ الحِمْيري)، وهؤلاء الملوكُ الحِمْيريُّون لا يثبت في النقل عنهم بيتٌ واحدٌ لَهُمْ، بل أشعارهم مِن وضع ونسج الأخبارييِن، ولا داعيَ لهذا التوجيه بتعليل حذفِ الألف المهموزة؛ لأن ذلك مَبْنِيٌّ على أن أصل (الناسِ أُناسٌ)، وقد سلف بطلانُ ذلك.. ولا يمتنع الجمعُ بين الألف المَهْمُوْزة في (الأُناسِ) وبين (أَلْ) إذا قلتَ عن (النَّاسِ) هم (الأُناسُ)؛ لأن (أَلْ) والألف المهموزة ليستْ إحداهُما عوضاً عن الأخرى، بل هُما شيئان أصليان لا ينوب أحدهما عن الآخر؛ فالألف المَهْمُوزة لإثباتِ دعوى أن المَحْذُوفَ من (الناسِ) هو الألِفُ المهموزة لَما حُوِّلت مِن (أُناس)، و(أَلْ) لإثبات دعوى أنَّ المَحْذوف منه (الأُناس) أيْ الألفُ المَهْمُوْزة؛ وإذنْ فلكلِّ واحدٍ من الشيئين وظيفتُه الحتميةُ، وليس عوضاً عن الآخر.. وقد سَلَف أن (الناس) ليست من (الإنسان) التي جَمْعُها (أُناس)، وإنما هي من (النَوْسِ) التي هي اسمٌ ثانِيْهِ واوانقلبتْ ألِفاً في (الناس)، وأنها وَصْفٌ للفاعل من الفعل الماضي (ناسَ).. وسلف أيضاً أن أصْلَ الاشتقاقِ الأقلُّ حروفاً، و(ناسٌ) أقلُّ حروفاً مِن (أُناسٍ).. وذكر الفيروزآبادي في (القاموس المُحيط) أن (الناسَ) اسم (قيسِ عَيْلان)، وعَلَّق الزَّبِيدي في كتابه (تاج العروس) 16/ 585 بقوله: ((و(الناس) اسمُ (قَيْسِ عَيْلانَ).. يُروى بالوَصْل والقَطْع كما في حاشية الصِّحاح، ووُجِد بخطِّ أبي زكريا هو إِلْنَاسُ بن مُضَرَ بن نزارٍ وأخوُه إِلياسُ بن مُضَرَ بالياء.. هكذا بكسر الهمزة وسكون اللام وفتح النون، وهو خطأٌ، والصواب (النَّاسُ) كما للمُصنِّف وغيره، وتقدَّم البحثُ فيه في (ق ي س)، وفي (أ ن س))).
قال أبو عبدالرحمن: الذي في تاج العروس 16/417-418 في مادة القاف والياء المُثَنّاةِ التحتية والسين المُهملة: ((وقيسُ عَيْلان بالفتح (هكذا بالإضافة) أبو قَبيلَةٍ، واسمُه (النَّاسُ بن مُضَرَ) أخو (إلْيَاسِ)، وكان الوزير المغربي يقول: النَّاسُّ مُشَدَّدُ السِّين المُهملة، وكَوْنُ قيس مُضافاً إلى عيلان هو أحدُ أقوال النَّسَّابينَ، واخْتُلِف فيه فيقال: إنَّ عَيْلانَ حاضِنٌ حَضَنَ قَيْساً، وإنَّه غلامٌ لأبيه.. وقيلَ: عَيْلانُ فَرَسٌ لقيسٍ مشهورٌ في خيل العرب، وكان قيسٌ سَابقَ عليه، وكان رجلٌ من بَجيلَةَ يُقال له: قيس كُبَّةَ لفرسٍ [أي نُسِبَ إلى فرسه]، يقال له: (كُبَّة) مشهورٌ، وكانا مُتجاورين في دارٍ واحدة قبل أن تَلْحَق بَجيلَةُ بأرض اليمن؛ فكان الرجل إذا سأل عن قيس قيل له: أقيسَ عَيْلانَ تُريد أم قيسَ كُبَّة؟.. وقيل: إنَّه سُمِّي بكلبٍ كان له يقال له: عَيْلان.. وقال آخرون: باسم قَوْسٍ له، ويكون قيس على هذا ولداً لمضر.. والذي اتَّفقَ عليه مشايخُنا من النَّسَّابين أنَّ قيساً ولدٌ لعيلان، وأنَّ عيلان اسمه النَّاس، وهو أخو إلياس الذي هو خِنْدِفٌ، وكلاهما ولدُ مُضَرَ لصُلْبه، وهذا الذي صرح به ذَوو الإتقان واعتمدوا عليه، ويدلُّ لذلك قول زهير بن أبي سُلمى:
إذا ابْتَدَرَتْ قَيْسُ بنُ عَيْلانَ غَايَةً
مِنَ المَجْدِ منْ يَسْبِقْ إليها يُسَوَّدِ
وأمُّ عيلانَ وأخيه هي الخَنْفَاءُ ابنةُ إياد المَعَدِّيَّةُ كما حقَّقه ابن الجوَّانيِّ النَّسَّابة في المقدِّمة الفاضِلية.. و(تَقَيَّس) الرَّجُلُ إذا تشبَّه بهم أو تمسَّك منهم بسبب كحلفٍ أو جوارٍ أو ولاءٍ.. قال جرير:
وإنْ دعَوْتُ منْ تَميمٍ أَرْؤُسَا وقَيْسَ عَيْلانَ ومَنْ تَقَيَّسا
والرَّأْسُ مِنْ خُزيمةَ العَرَنْدَسا تَقَاعَس العِزُّ بِنَا فاقْعَنْسَسَا
وحكى سيبويه: تَقَيَّس الرجُلُ إذا انتسب إليها)).. وذكر في مادة (قيس) كلَّ اسم أوْ وَصفٍ مضافٍ إلى (قيس)، وفاته (قيس الرأيِ) صِفَةً لقيس بن زهير قائدِ حرب داحسٍ والغبراء.
قال أبو عبدالرحمن: بيت زهير من قصيدته التي مطلعُها:
غَشِيْتُ الديارَ بالبقيع فثهمدِ دوارِسَ قد أَقْوَينَ مِن أم مَعْبَدِ
يمدح هرم بن سنان، وهي من رواية المَفَضَّلِ الضَّبِيِّ وأبي عمرو بن العلاء وحسبك بهما عدالة وصدقاً [انظر شرح ديوان زهير بن أبي سُلْمَى لأبي العباس ثعلب 174 بشرح الدكتور نَصْرٍ الحِتِّي دار الكتاب العربي طبعتهم الثالثة 1418هـ، وانظره بشرح الدكتور فخر الدين قباوة دار الفكر بدمشق/ طبعتهم الثانية عام 1996م، وشرح الأول سَطوٌ على شرح فخر الدين، وليس في الشرحين كبيرُ فائدة ].. والشعر الجاهلي روايتُه تواتُرِيَّة يُتَلَقَّى بما هو مُسْتَفِيضٌ عند الناس، وعند قبيلة الشاعر كما نروي الشعر العاميَّ اليومَ.. وقد تزيد الروايةُ التواتريَّة برواية مُسْنَدة إذا أدرك الراوي راويةً ثِقة يروي شعره.. ومعنى البيت عن التَّسوِيد أن السيادة لِمنْ سبق من ذرية قيس بن عيلان إلى الغاية (حَلْبَةِ سِباقِ الخيل) المُحَدَّدةِ برمياتِ قوسٍ مركوزٍ بِمِنْتَهاها عصا، أو بغاية، وتكون انتهتْ إليها فرسٌ ضَامِرَة - والتضمير أدْعَى إلى سُرْعَتها -؛ فيوضع عند منتهى الغاية عصا أوراية مركوزة؛ فَيْقتَلِعُها السابِق؛ فيكون أسبق إلى مفاخِرِهم، ويكون سيداً فيهم؛ فهذا يُؤَكد أنَّ ابنَ سمعانَ سُمِّيَ (النَّوَّاسَ) تفاؤلاً وتيامُناً بسيادته بمفاخِرَ توارثتها ذُرِّيةُ قيس كما سيأتي إن شاء الله عن (قيس الرَّأْيِ)، ولا صِحَّة لدعوى أنَّ القاعدةَ (الأسماءُ لا تُعلَّل) بل هي مُعَلَّلةٌ ولو بالارتجال لجمال الإيقاع، أو للسجع في أسماء الذرية مثل خالد وراشد وماجد، وغلا ورُؤَى ورنا وشذا ومحمد ومُهَنَّد (وعلى وزنه مُسَدَّد) كما هو معهودٌ الآن في أسماء المعاصرين.. والمُهِمُّ أن التعليل لا بدَّ منه، ولكنَّ منه ما يُجْهلُ إلا إذا صَرَّح المُسَمِّي بالتعليل.. وجرير في أرجوزته يفتخر بمن تَقَيَّس.. يريد مَن انتسب إلى جده قيس بن عيلان مُشاركاً في مَفاخِرهم.. وهذا الاختلاف في اسم قيس بن عيلان نشأت عنه احتمالات لا ينبني عليها حُكمٌ تاريخي، وما رجَّحه الزَّبيدي منقول عن كتاب (تفرُّق القبائل) لابن الكلبي، ولا أعلم له وجوداً اليوم، وابن الكلبي وأبوه كَذَّابان، والنقول عن كتابه أظهرت إغراباً على أبناء عصره عن تفرُّق القبائل ومصاهراتها ونكاح آباء القبائل مُدَّعِياً مصادر لم يطَّلع عليها غيره؛ فوثق به أبناء عصره؛ لأنه كان عمدةً في تفريغ القبائل حسب علمهم بالراوية الشفهية التواترية؛ فلا يُقْبَلُ من إغرابه إلا ما ورد به شعر تواتري، أو إسناد عن ثة ينتهي إلى الشاعر، أو ما ورد به نصٌّ شرعي إعمالُه أرجح من إهماله، ومنه الصحيح كخبر عائشة رضي الله عنها عن مَناكح الجاهلية وأنها خمسة أنواع.. وذكر ابن دريد في كتابه (الاشتقاق ص 262) زيادة تعليل، وهو أن أخاه (إلياساً) كان غنياً فقال: ((أنت عِيالٌ عَلَيَّ))، وكل هذه أخبار لا خِطامَ لها ولا زِمام، وعَيلان بفتح العين المُهْمَلَة لبلوغ الغاية من اسم الفاعل (عائِل) مثل شبعان ونَدْمان ورَحمان وملآن، وأما (العِيال) بكسر العين فلا تليق في مُخاطبة الواحد إلا إذا علم من السياق تنصيصاً أو استنباطاً أنه يريدُ معه أهله وَمَن أدركهم من ذريته وأنه كان يُنفق عليهم.. وذكر ابن دريد أيضاً زيادة تعليل لما ذكره المغربي - وهو بعد ابن دريد بقرنين - عن رواية (النَّاسِّ) بتشديد السين المُهملة الذي هو اسم لأخي عيلان؛ فقال ص 265: ((الناسُّ بالسِّين المُثقَّلة من قولهم (تسَّتِ الخبزة تنِسُّ نساً) إذا يبست)).
قال أبو عبدالرحمن: أيُّ ميزة في هذه التسمية من الخبز اليابس إلا أنْ يكونوا سبقوا إلى معنى المَثل العامي (فلان لا حيلةَ فيه رجَّال يابس)؛ ولهذا يشبهونه برأس الظبي ليس فيه ما يُعْرش، ويصفونه بالناشف بمعنى أنك لن تحصل منه على فائدة إنْ ذمُّوه، وبمعنى أنك لن تحصل منه على سِرٍّ إن مدحوه، وبئس المثل في الحالين؛ وإنما يُوصف كاتِم السِّر بالظلماء كوصف عبدالله بن عبداللطيف ابنَ أخيه محمد بن إبراهيم رحمهم الله تعالى، ويقولون (يُضَرِّبُكَ فلَّايات) يعني يتنقَّل بك في متاهات من المفاوز في الفلوات الواسعة.. والبيتان مِن الأرجوزة المنسوبة إلى جرير وهما على الحقيقة للراجز العَجَّاج مِن أرجوزته التي مطلعها:
يا صاحِ هل تعرفُ رسماً مُكْرَسا
قال نعم أعرفُه وأبْلَسا
يفخر بمآثر ومفاخر بني جده قيس بن عَيلان برواية الأصمعي لديوان العجاج وشرحه إيَّاه انظر ديوان العجَّاج بتحقيق الدكتور عبدالحفيظ السَّطْلي مكتبة أطلس بدمشق 1/185-211، وانظره رواية وشرح الأصمعي بتحقيق الدكتور سَعْدِي ضَنَّاوي ص118-130 دار صادر ببيروت طبعتهم الأولى عام 1997م، والعجاج من بني سعد بن زيد مناة القبيلةِ الشهيرةِ الواسعةِ الديار باديةً من سفوان وكاظمة (الكويتُ الآن) شمالاً إلى يبرين وما حاذاها جنوباً، ومن البحر شرقاً إلى ما بين العَرَمَة وسفوح طويق حاضرةً ريفيةً إلى حزن بني يربوع (التَّيْسِيَّات) شرقاً، وتُجْنب إلى المرُّوت جنوباً شرقِياً.. وآخر الأرجوزة:
فَبَخَّسَ الناسَ وأعيا البُخَّسا
وَذَخْذَخَ العدوَّ حتى اِخْرَمَّسا
ذُلاً وأُعطِيْ مِن حِماهُ المُكَّسا
وفسَّر الأصمعيُّ تبخيسَ الناسِ بالأخذ منهم ظلماً.. وهذا يليق بذرِّيته لمَّا أصبحوا قبيلة، والعربُ لما كانوا يتظالمون في عهود السلب والنهب افتخروا بالغَشْم؛ ليدفع الضعيف إتاوةً؛ ليدفع عن نفسه.. وفسَّر الأصمعي الذَّخْذَخةِ بالغلبة، وهذا تفسير ناقص، بل المعنى دافعهم بتمهُّلٍ وإذلال؛ لضعفهم حتى اخرمَّسوا أي سكتوا.. والرباعي إذا بُني على جذرٍ ثنائي مكرَّر فالأغلب أنه حكاية صوت؛ أي ذادهم بما يُذاد به الذِّيخ: ذِخ ذِخ.. وفسَّر المُكَّسا بالتعشير، وهو الإتاوة مِن أجل الإبقاء على حِمَاه.. وقبيلة جرير بنو يربوع ذوو منعة وحِمىً وديار واسعة وفيهم الفرسان المرهوبون، ولكنَّ عشيرته الأدنين أهل ريفٍ ضعفاء؛ فالعجَّاج أفْخَرُ منه، وإلى لقاء في سبتية قادمة إن شاء الله، والله المستعان.