مَنِ المُرادُ بالناسِ مِن الثَّقلين؟:
قال أبو عبدالرحمن: هناك خَلْطٌ بين ثلاثِ موادَّ مِن مُفْردات اللغة العربية مِن ناحية المجاز الأدبي؛ بسبب الجِذْرِ الثنائي المُشْتَرك، وهو النونُ والسِّين المُهملة.. وهذه المفردات هي الإنسان من الفِعل (أَنِسَ)،
وقد اشتهر عند العامة أنَّ الإنسان ما سُمِّي إنساناً إلا لِنَسْيِهِ.. أي نسيانه، وليس هذا المعنى استقراءً من لغة العرب، وإنما المُسْتَقرأُ أن الإنسانَ يُؤْنس به مِن الفِعْل (أَنِس)، ولكنَّ المجاز الأدبي ترشَّح له التجوزُ مِن مادة (نَسِيَ)؛ لأن النسيان ظاهرةٌ في بني آدم، وعلى ذلك دلالةٌ من الشرع؛ ولذلك حديثٌ مُستَقِلٌّ في هذه المَحطَّات.. والمادة الثانية مُفْردة النِّسيان من الفعل (نَسِيَ)، ولها حديث خاصٌّ عَقِبَ مادة الإنسان من الفِعْل (أَنِسَ) إن شاء الله.. والجِذْرُ الثُّنائي المشتَركِ نوناً وسيناً مهملةً موجودٌ في غير المواد الثلاثِ المذكورة آنفاً، وسأُعَرِّج على دلالته إنْ شاء الله في هاته المَحطَّات.. والمادة الثالثة (الناس) من الفِعْل (ناسَ)، وهو فعل مُعْتَلٌ حرفُه الثاني بالألف المُنْقَلِبة عن واو (نَوَسَ)؛ فهو فِعلٌ واويُّ الوسط.. والمُرادُ بالناس مأخوذٌ مِن أحد معاني ناس.. قال أبو إبراهيم إسحاق بن إبراهيم الفارابيُّ [- 350هـ] رحمه الله تعالى في ديوان الأدب 3/395: ((ناسَ الشَّيْئُ إذا تحرَّكَ وهو مُتَدَلٍّ))، وقال ص422: يُقال: أَناسَهُ فناسَ إذا تحرَّك.. ويقال: أَناسَ مِن حَلْيَيْ أُذَنَيَّ فناستا)).. شُكِّلَتْ تشكيلاً قلمِيَّاً مِن غير تنصيص بفتح الحاء المُهملَة، وسكون اللام، وتخفيف اليَاءَيْنِ.. والصواب ضمُّ الحاء، وكسر اللام، وتشديد الياء الأولى المُثناة مِن تحت، وتخفيف الياءين الأخيرتين؛ فهنَّ ثلاث ياءاتٍ هكذا (حُلِييِيْ).. قال أبو عُبيد أحمد بن محمد الهرويُّ [- 401هـ] رحمه الله تعالى في كتابه (الغريبين في القرآن والحديث) [مكتبة نزار الباز بمكَّةَ المُكَّرمة/ طبعتهم الأولى عام 1429هـ] - بتقدير (كتابُ) قبل (الغريبين) مباشرة -: ((في حديث أمِّ زرع: (أناسَ مِن حُلِيِّ أُذُنَيَّ) يريد أنه حلَّاها قُرْطةً وشُنوفاً تنوس بأذنيها.. أي تُحَرِّكُها))؛ فالمعنى أن القُرط والشُّنوف تَدَلَّتْ مِن حُلِيِّها الذي فوق أُذُنَيْها فناستا.. والحُلِييُ مضافٌ بالوصف إلى أُذُنيها الثنتين؛ فكانت الياءات ثلاثاً: الأولى ساكنة مُشَدَّدة، والثانية مفتوحة مُخَفَّفة، والثالثة ساكنة مُخَفَّفة.. وقال ص 357: ((رجَلٌ نَوَّاس إذا اضطربَ واسترخَى)).. وفي حاشية إحدى نُسَخِ (ديوان الأدب) كما في 3 / 265ه: ((الناوُوْس بيتُ نارِ المجوس)).. [قال أبو عبدالرحمن: هذا بلا ريب مِن كثرةِ حَركتِها لِتحيكها، وهي حَركةُ اضطراب.. كما أنَّ دُخانُها يَعْلَق بالسَّقْفِ؛ فَينُوس].
وقال الإمام ابنُ فارس [- 395هـ] رحمه الله تعالى في المقاييس: ((النون والواو والسين أصْلٌ يدلُّ على اضطراب وتذْبْذُبٍ.. وناسَ الشَّيْئُ تَذْبذبَ ينُوسُ.. وسُمِّيَّ أبو نُواسٍ لِذُؤَابتين له كانتا تنوسان.. ويقولون نُسْتُ الإبلَ سُقْتها)).
قال أبو عبدالرحمن: نُسْتُ من مادة النون والسين المُضَعَّفَة.. أيْ نَسَسْتُ؛ وليس في هذه المادة حَرْفٌ مُعْتَلٌّ فيُراعَى الجِذْر الثنائي المُشْتَرك؛ وإنما طرأ الحرف المُعْتَلُّ من صيغة اسم الفاعل.. أي نَسَسْتُها فناسَتْ بمعنى تحرَّكت وَمَشتْ من كل جهة، وهذا أَبْلَغ حركاتِ الاضطراب.. ومن الاستعمال عند العامة وهو بِيقينٍ موروث بالتلَقِّي شَفَهِياً عن العرب الفصحاء قولُ البادية اليوم: نَبَا نِنُوسْ الربع الليلةْ [اللالَةْ].. أي نتردَّد عليهم من كلِّ جهة؛ لِنَبْلُوَ أخبارَهم.
وقال الراغِبُ الأصفهاني [- 425هـ] رحمه الله تعالى في كتابه المُفْردات ص 828- 829هـ دار القلم بدمشق طبعتهم الرابعة 1430هـ: ((الناس قيل: أصلُهُ أناسٌ؛ فحُذِفَ فاؤُه لمَّا أُدْخِلَ عليه الألف واللام.. وقيل قُلِبَ من نَسِيَ، وأصله إنْسِيانُ على إفْعِلان.. وقيل: أصله منْ نَاسَ يَنُوسُ إذا اضطربَ، ونِسْتُ الإبل: سُقْتُها.. وقيل: ذو نُواسٍ مَلِكٌ كان يَنُوسُ على ظهره ذؤابةٌ؛ فسُمِّى بذلك، وتصغيرُهُ على هذا نُوَيْسٌ.. قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [سورة الناس/1].. والناس قد يُذْكرُ ويراد به الفُضلاءُ دون من يتناوله اسم الناس تجوُّزاً؛ وذلك إذا اعْتُبِرَ معنى الإنسانِيَّة، وهو وجُودُ العقل والذِّكْر وسائر الأخلاق الحميدة والمعاني المختصَّة به؛ فإنَّ كلَّ شيئ عُدِمَ فعلُه المختصُّ به لا يكاد يستحقُّ اسمه كاليد؛ فإنها إذا عَدِمَتْ فعلَها الخاصَّ بها فإطلاقُ اليد عليها كإطلاقها على يد السرير ورجْلِهِ؛ فقوله: آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ [سورة البقرة /13] أي كما يفعل من وُجِدَ فيه معنى الإنسانية، ولم يقصد بالإنسان عَيْناً واحداً بَلْ قصد المعنى، وكذا قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [سورة النساء/ 54] أي من وَجِدَ فيه معنى الإنسانية أيَّ إنسان كان، وربَّما قُصِدَ به النَّوْعُ كما هو، وعلى هذا قولُه: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ .
قال أبو عبدالرحمن: الراغب رحمه الله تعالى ذكر احتمالاتٍ ولَمْ يُرجِّح، ويأتي تحقيق ذلك بتدقيق إن شاء الله في الوقفات.. و(أُناسٌ) أقلُّ حروفاً من الفعل، (ناسَ)، وأصل الاشتقاقُ يكون مِن الأقلِّ حروفاً.. وأضاف محمود بن عُمَرَ جارُ الله الزمخشري [- 538هـ] في كتابه (أساسُ البلاغة 2/480 الهيئة المصرية العامة للكتاب/ طبعتهم الثالثة عام 1985م: ((أَزِلْ نُواسَ الدُّخان، وهو ما تدَّلَى مِنه مِن السقف)).. وفي سورة الناس ذكر الله الوسواس الخنَّاس - وهو الشيطان الرجيم من الجِنِّ -، وَوَصَفَه بأنه يوسْوس في صدور الناس من الجنة والناس؛ فالناس الذين يوسوس شياطين الجنِّ في صدورهم لهم احتمالان: الأَّولُ أن يكون الناسُ شاملاً الجنَّ والإنس، وأنَّ شياطين الجن يوْسوِسُون في صدور أبناء جنسهم كما يوسوسون في صدور الإنس.. والمَعنى الثاني أن يكون الناسُ قاصراً على شياطين الإنس؛ وهذا الاحتمال الأخيرُ باطلٌ؛ لأن الإنسيَّ غيرُ قادرٍ على الوسوسةِ في صدر الجِنيِّ؛ لأن الله حجب عنه رؤيَتَه؛ فإنْ تراأى له الجنيُّ فإنه يظهر له على غير صورته؛ لأنَّ الله أقدره على التَّشكُّل، فيصبحَ الإنسيُّ غيرَ عارفٍ ولا عالم به سكناً ونسباً، وغيرَ قادرٍ على الوصولِ إليه في الوقت الذي يريده، وغيرَ قادرٍ على تمييزه من بني جنسه.. ومَن ادَّعى أنَّ له أصدقاء من الجنِّ فذلك مُحْتَمل، ويترجَّح الاحتمال بمدى صِدْقِ الرائي وتديُّنِه.. ومَن ادَّعى أنه يعرف خطوطهم - وهم قادرون على التَّقليد، وعلى سرقة الخطوط - فذلك محتملٌ من جهةٍ ضيِّقة، وهي أنه عرف وميَّز خطَّاً رآه لا أنه عرف خطَّ الجنيِّ نفسِه، ولا أنَّه يعرف ويعلم ويُميِّز جنياً مِن جنِّي حسب ما هو عليه في خِلْقته كما مرَّ؛ وإنما الإنسي قد يعظُ الجِننِيَّ من غير قصد عَلَناً لا وسوسة خفية؛ فيتأثرَّ بموعظته، وينقاد لها كما في اتِّعاظ الجنِّ الذين استمعوا كتاباً أُنزل مِن بعد موسى، وكما في سورة الجنِّ عن قوم من الجن سمعوا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد.. كما أن الإنسيَّ يتعوذُّ برجالٍ من الجنِّ عَلَناً، لا أنه يوحي لهم بالوسوسة.. قال الحافظ ابنُ كثير [700- 774هـ] رحمه الله تعالى في تفسيره [7/ 710-711/ دار ابن الجوزي طبعتهم الأولى عام 1431هـ]: (( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَهِ النَّاسِ مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ هَذِهِ ثَلَاث صِفَات مِنْ صِفَات الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ الرُّبُوبِيَّة وَالمُلْك وَالْإِلَهِيَّة؛ فَهُوَ رَبُّ كُل شَيْئ وَمَلِيكه وَإِلَهه؛ فَجَمِيع الْأَشْيَاء مَخْلُوقَة لَهُ، مَمْلُوكَة، عَبِيدٌ لَهُ؛ فَأَمَرَ المستعيذَ أَنْ يَتَعَوَّذ بِالمُتَّصِفِ بِهَذِهِ الصِّفَات مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاس الخنَّاس، وَهُوَ الشَّيْطَان المُوْكَلُ بِالإنْسَانِ؛ فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَد مِنْ بَنِي آدَم إِلَّا وَلَهُ قَرِين يُزَيِّن لَهُ الفَوَاحِش، وَلَا يَأْلُوهُ جَهْدًا فِي الْخبَال.. وَالمعصوم مَنْ عَصَمَه الله، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيح: ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وقَدْ وُكِلَ بِهِ قَرِينُه.. قَالُوا: وَأَنْتَ يَا رَسُول اللَّه؟.. قَالَ: نَعَمْ إِلَّا أَنَّ اللَّه أَعَانَنِي عَلَيْهِ، فَأَسْلَمَ؛ فَلَا يَأْمُرنِي إِلَّا بِخَيْرٍ.. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَس [رضي الله عنه] فِي قِصَّة زِيَارَة صَفِيَّة [رضي الله عنها] لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْتَكِف، وَخُرُوجه مَعَهَا لَيْلًا لِيَرُدهَا إِلَى مَنْزِلهَا؛ فَلَقِيَهُ رَجُلَانِ مِنْ الأَنْصَار؛ فَلَمَّا رَأَيَا رسول الله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْرَعَا؛ فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى رِسْلكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّة بِنْت حُيَيٍّ.. فَقَالَا سُبْحَان اللَّه يَا رَسُول اللَّه؛ فَقَالَ: إِنَّ الشَّيْطَان يَجْرِي مِنْ اِبْن آدَم مَجْرَى الدَّم؛ وَإِنِّي خَشِيت أَنْ يَقْذِف فِي قُلُوبكُمَا شَيْئاً.. أَوْ قَالَ شَراً)).
قال أبو عبدالرحمن: قوله: (فيه قولان، ويكونون قَدْ دخلوا.. إلخ) كلامٌ ناقصٌ يحتاج إلى تقدير، والتقديرُ: أحدُ القولين أن الجنَّ داخلون في الناس تغليباً.. وقوله: (وهذا يُقَوِّي القولَ الثاني)، فيلاحَظُ أنه رحمه الله ذكر قولاً ثانياً ولم يُبَيِّنْهُ، وبيانُه أن الناس يشمل الإنس والجن؛ لأن الخناس من الجن يوسوس في صدور الإنس، وفي صدور بني جنسه مِن الجن؛ فصارت الناس تُطْلَقُ على الجنِّ والإنْس.. واستعمالُ رجالٍ في أناس من الجنِّ وارد في قوله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [سورة الجن / 6].. قال ابن كثير رحمه الله تعالى ص 394 ذاكراً قول الجِنِّ المُؤمنين: ((أي كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس ; لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها كما كان عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيىءٍ يسوؤهم.. كما كان أحدهم إذا دخل بلاد أعدائه يدخل في جوار رجل كبير وذمامِه وخفارتِه؛ فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً؛ أي خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى بقوا أشد منهم مَخافةً [أي منهم أنفسهم؛ فخوفهم بعد بداية التعوذ أشد] وأكثر تعوذاً بهم كما قال قتادة: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي إثماً وازدادت الجن عليهم جراءة)).
قال أبو عبدالرحمن: إطلاق الناسِ على الجنِّ والإنس هو الصحيح، وليس ذلك تغليباً؛ بل لأن النوس مُشْتَرَكٌ بين الثَّقلين المُتَميِّزين عن ذوي النَّوْسِ بالإدراك معرفةً وعِلْماً.. والملائكة عليهم السلام غير داخِلينَ في مفهوم الناس وإن كانت حركاتُهم في السبح في الفضاء نَزْعاً وَتَمُوَّجاً مع اختلافٍ في السُّرعةِ وعدد الأجنحة المعينة على السُّرعة.. لا يدخلون في معنى الناس؛ لأنهم لا يُوَسْوِسون؛ وإنما يمنحونَ القلوب طمأنينةً بأمرِ ربِّهم إذا كانت القلوبُ مُخْبتةً لخالِقها ومولاها سبحانه وتعالى، ويواجهون الكَفَرة علناً، والكفرةُ يرونهم رأيَ العين إذا انقطعَ الرجاءُ بموافاةِ العبد ربَّه على كفْرِه عند الغَرْغَرة.. وينذرون أو يبشِّرون عباد الله رأي العين في المنام إذا أروهم المبشِّرات أو المُنذرات؛ لأن الرؤيا لا الحُلْم من إبراء المَلَك، والحُلْم من الشيطان، وأضغاث الأحلام إيراءٌ من الشيطان يجسِّدُ في النوم حديثَ النفس، ويسترجَعُ صُوَراً متباعدةَ الزمان والمكان مما مَرَّ في حياة الذي أُري.. وروعي في وصف الجن بأنَّ منهم رجالاً معنى الإدراكِ الذي أسلفته، والمَلَكُ عليه السلام لو جعله الله رجلاً من بني آدم يمشي في الأرض لجعلَه مَلَكاً من الملائكة؛ فيلبِسَ على الكفَّارِ الجاحدين أَنَفَتَهم من اصطفاءِ الله رجلاً منهم يُبَلِّغُ رسالة ربه.. ولَمْ يَقُلْ مؤمنو الجنِّ ما ذكره ابن كثير مِن أنهم كانوا يرون أن لهم فضلاً على الإنس؛ وإنما شهدوا بأن رجالاً من الإنس يعوذون برجال من الجن، وشهدوا بأنَّ ذلك لم ينفعهم، بل ازداد الجنُّ في تخويفهم.. وذكر ابن كثير رحمه الله تعالى أقوالاً في معنى الرَّهق، والمحقَّق عندي أن الرَّهق بَيِّنَةٌ معانيه من لغة العرب؛ فلا يَحتمِل تلك الأقوالَ، وغاية الأمرِ أن يُفَسَّر الرَّهقُ في الآية الكريمة بالمعنى اللائق به من معاني المادة؛ فمِن معانيه التَّعَبُ الشديد الذي يلحق مَن غَشِيه النوم من التعب؛ فذلك يوصف بأنه مُرْهَق.. ورجالُ الإنس عاذوا برجالٍ مِن الجن لِشِدَّةِ الخوف؛ فاللائق بـ{فَزَادُوهُمْ} أن الجنَّ زادوهم خوفاً؛ وفي هذا إذلال للمستعيذين من الإنس، وإلى لقاء إن شاء الله، والله المستعان.