يقول الله جلّ وعلا في كتابه المحكم فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (185) سورة البقرة. هكذا خاطب الله عباده في فريضة من فرائضه، وفي ركن من أركان الإسلام،
فجاء التكليف لينًا محببًا وبه فسحة ومجال وعذر لمن قد يسبب الصيام له مشقة أو لا يقدر على الصوم. وفي الآية تنبيه صريح لا يقبل التأويل وهو: يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ . فالإسلام دين السلام والمحبة ودين اليسر والتآخي، وليس دين العسر والتسلط. والأصل في الإسلام الإباحة إلا فيما نزل نص بتحريمه أو مما يخشى منه على المسلمين بشكل واضح ضرر جسيم.
وقد خاطب الله نبيه موسى قائلاً: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى. فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى طه. أي أنه أمر باللين في القول حتى مع من ادعى أنه إله. وقدم الإسلام الأمر بالمعروف على النهي عن المنكر لحد إسقاط بعض الفقهاء النهي عن المنكر لأن الأمر بالمعروف هو في ذاته نهي عن المنكر؛ ولأن النهي عن المنكر لا يمكن أن يكون إلا بالمعروف. بل إن الله جلّ وعلا خيّر الإنسان صراحة في الأمر المتعلق به: وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ (29) سورة الكهف. ومن القواعد الآلهية: وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (15) سورة الإسراء. وتكررت الآية في أكثر من موقع لأهميتها، فكل مسؤول عن ذنبه أمام الله. وكذلك: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) سورة الزلزلة. وخاطب خاتم الأنبياء قائلاً: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22) سورة الغاشية. وفي موضع آخر: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ (159) سورة آل عمران.
هذه الآيات وغيرها توضح الخيار الذي تركه الله لعباده واضحة بما يقلص مجال التأويل فيها إلى حد كبير، فلا تحتاج لتأويل أو قياس أو إجماع، وهي لا تتعلق بمواضيعها فقط، بل تتعداها ذلك لتكون منهجاً وهدياً على المسلمين اتباعها في كافة شؤون حياتهم الأخرى إما صراحة أو قياسًا، وقد يكون في الزيادة في معانيها أو المبالغة في تطبيقها تجاوزًا يعدل أو يفوق التراخي في تطبيقها.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة من شعائر الدين، والمنكر لا يقصد به سلوك البشر فقط، بل كل ما ينكره الناس والمجتمع أو تأنف منه النفس. فلو أزلت الأذى من الطريق، أو أزلت من مكان عام ما يمكن أن يضر بالمسلمين فقد تكون غيرت منكراً ارتكبه من سبقك بوضعه. ومنه أيضًا نهي الناس عن المنكرات وقد اشترط الفقهاء فيمن يمارس ذلك: العلم، والاستقامة، والحلم، والصبر على أذى قد يلحق بالآمر بالمعروف ممن قد لا يتقبل أمره، فهو أمر يثاب عليه من قام به ولا يكون من غير أجر أو مقابل مادي. والأمر بالمعروف غير الاحتساب، فالاحتساب يكون على مراقبة وردع مخالفة الأمور التي لها علاقة بتنظيم أمور المجتمع، كمراقبة الموازين والمكاييل، أو المال العام، أو تطبيق الأنظمة.. الخ. أي بعض المهمات التي تقوم بها هيئات المراقبة ومكافحة الفساد حاليًا، ويمكن أن يطلق عليها هيئات الاحتساب، وهو وظيفة عامة لها مهمات محددة ويمارسها موظفون بتكليف من ولي الأمر.
ولفت نظري مؤخراً قضيتان خلافيتان اعتقدت أنهما نتجتا عن سوء فهم لا سوء تفاهم ومن قبيل الاجتهاد والحماسة الزائدة. الأولى هي قضية وافد بريطاني مسلم وزوجته وقعا في مشادة مع بعض رجال الهيئة ويعرفها الجميع، وقد حققت الهيئة في الأمر واتخذت قرارات شجاعة منها تقديم الاعتذار للوافد وزوجته. وقد شكا رجال الهيئة في مرات كثيرة مما يرون أنه إساءات لفظية لهم ولدورهم الذي يحاولون تأديته في سبيل الحفاظ على الفضيلة في المجتمع. وهذا أمر غير جائز في مجتمع مسلم كمجتمعنا يفترض أن تكون فيه الكلمة الطيبة أساس التعامل مع الهيئة أو مع المواطن على حد سواء. وتكررت المواقف التي تنتهي بمشادات كلامية تصعد النقاش وتسبب تباعدًا وجفاءً عاطفيًّا بين الأطراف. وكما يعلم الجميع فبعض أمور الهيئة أشغلت الناس وأشغلت المسؤولين عنها ذاتهم. فالهيئة تمارس شريعة إسلامية يفترض في تطبيقها أن يكون بمستوى رقي الإسلام ذاته وسماحته. ولو ترفّع رجال الهيئة عن الأمور الصغيرة التي ليست بها مخالفات كبيرة للشريعة وليس بها جرح فاضح للشعور العام لاختفت كثير من مشاداتهم مع المواطنين. فالمواطن يعتقد أن له أمورًا خاصة به وتتعلق بذوقه أو ذوقها أو حريته وحريتها ويرى أنها لا تخالف أمور الدين مخالفة صريحة ولذا لا يسمح بالتدخل فيها، ومن هنا تبدأ المشادات مع رجال الهيئة. وإذا لم يكن الرفق والترفع ممكنا فعلى مسؤولي الهيئة وضع قائمة مفصلة تفصيلاً دقيقًا بما هو مقبول وما هو مرفوض، وأن يحول رجال الهيئة إلى هيئة رسمية ضبطية للقيام بها، لأن الأمر بالمعروف يفترض النصح واللين فقط والنهي لا يعني التدخل الجسدي أو التوقيف إلا لما فيه حد بنص صريح وهذه مهمة الجند والشرطة، وهنا لن يتعلق الشأن بالأمر بمعروف، بل تطبيق آخر لأعراف تأخذ صفة التعليمات والقوانين.
القضية الأخرى تتعلق بحوار شاهدته على إحدى الفضائيات بين رجل ملتزم متشدد وآخر يختلف معه حول وجوب تغطية المرأة لوجهها، وهي قضية تتكرر كثيرًا وتتسبب في مشادات كثيرة، ففيما أعتقد الأول أن غطاء الوجه من صميم تعاليم الشريعة وأنه واجب، خالفه الثاني في أن الأمر خلافي وأنه ليس فرضًا أو واجبًا. ودار معظم الخلاف حول تفسير الآية الكريمة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (59) سورة الأحزاب. والآية الأخرى: وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنََّ (31) سورة النور.
وما لفت انتباهي في الحوار أن الشيخ الملتزم اختار أسلوبًا للحوار به كثير من الاستعلاء وربما الاستهزاء بفهم من يحاوره للآيات بالرغم من أن القضية هنا هي قضية لغوية تأويلية ولا يجوز فرض الرأي قسراً إزاء فهمها، وتتعلق بالتحديد بمعنى الفعل «يدنين»، أو بشكل الجلباب والخمار، ومن يشمل التوجية الرباني؟ وهل هو مطلق أم مقيد؟ والفعل يدني لغة يعني «يقرّب»، والإدناء هو أقرب «للخفض»، واختلف الفقهاء فيما إذا كان الإدناء يستلزم ستر الوجه، وأن المقصود هو أن يدنين من جلابيبهن حتى يميزن عن الإماء اللائي كان يؤذيهن الدعّار في الليل لأمر الرسول بتمييز حرائر المؤمنين كيلا يؤذين، وهو يحتمل فهمًا آخر يتعلق بسياق معين. ولو كان كشف الوجه مخالفة صريحة لأمر الله عباده بتغطيته لفظاً وتصريحاً. واختلف الفقهاء أيضًا في شكل الجلباب واتفقوا فقط على أنه ما تكتسي به المرأة من ثياب. أما الآية الثانية، ونزلت بعد الأولى، فتتعلق بالخمار وهو غطاء الرأس، وهناك فقهاء منهم الألباني يرون أن الخمار يضرب على الصدر وليس الوجه أي بلفه تجاوزاً للوجه. والآية سبقتها آية أخرى تأمر المؤمنين بأن يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ، فعما يغض المؤمنون أبصارهم إذا لم يكن حولهم ما يشد هذه الأبصار. وربما كان الفقهاء الأوائل أكثر حذرًا في تفسير هذه الآيات ولذا جعلوها مسألة خلافية. ومعروف أن الله جعل إنسانية البشر في وجههم وطمس وجه المرأة طمس لإنسانيتها والإسلام أحرى ألا يقبل ذلك. والإسلام لم يكن قط دين عزل وفصل، بل دين تهذيب وتحصين، تحصين النفس ليس من الشهوة فقط، بل ومن الشك والارتياب أيضًا. ويأمر باحترام المرأة وعدم إيذائها في الطريق ولو حتى بالنظر وسبق لذلك الشرائع الحديثة كلها. وهذا التوجيهات لا قيمة لها فيما لو أغلقنا النساء وراء الأبواب. وامرأة عاملة، أو عالمة، أو طبيبة وقد يجدر بنا أن نمنحها الوسيلة والحرية لتؤدي واجبها. فالحماس لإقرار مجتمع كامل منزه هو ما يحول الأمر بالمعروف إلى مأسدة وشجاعة.