26-08-2014

التطهير الحضاري للسنة

ما أشبه الليلة بالبارحة قبل سنوات وبالتحديد في عام 2004م أعدم الأمريكي بول جونسون في الرياض، وفي عام 2009م، أي بعد 5 أعوام، أعدم الأمريكي دانيل بيرل أمام الملأ بإطلاق النار عليه من مسدس في باكستان، وسبق وكتبت عن هذه القضية في حينه، ووصفت ذلك بالإعدام الإعلامي لأنه كان يشبه المناظر التي تعرضها بعض أفلام

الرعب التي تنتجها هوليوود. وقبل أسابيع شاهدنا «نحر» الصحافي المستقل جيمس فولي أمام شاشات تلفزيونات العالم في منظر هوليوودي أسوأ من سابقه، وفي كل مرة تزداد وحشية القتل ووضوحه، والمنفذ هذه المرة عضو في منظمة غامضة المنشأ والأهداف تسمى داعش ويدعي انتماءه الإسلامي السني. والإعدامات الاستعراضية، في عالم السياسة الانتهازي لا تأتي صدفة وإنما لخدمة أهداف محددة سلفاً، الله يحمينا من شرورها.

وحسب الصحف البريطانية ومنها الإندبندنت فإنه تم التعرف على القاتل الذي نحر الصحفي المستقل جيمس فولي وهو بريطاني اسمه جون عضو في عصابة متطرفة معروفة لدى الأجهزة الأمنية البريطانية يطلق عليها البيتلز أو «الخنافس». وتم التعرف عليه بوسيلتين الأولى هي البصمة الصوتية واللكنة الإنجليزية التي تسهل تحديد أسلوب المتكلم ومدى ثقافته والمنطقة التي قدم منها. وحسب روايات الصحف نقلاً عن أجهزة الأمن، فإن خبراء اللغة يعتقدون أنه شخص متعلم حرص على أن يتكلم بشكل واضح وبأسلوب راق ربما لينفي صفة الجهل أو تدني الطبقة الاجتماعية والاقتصادية عن ذاته وليعزز فكرة أن التطرف الإسلامي البشع منتشر في طبقات المسلمين السنة كافة، مهما اختلفت جنسياتهم أو مستويات تعليمهم، وعلى أن داعش منظمة تمثل طبقات وطوائف المجتمع السني كافة وليس فقط الشباب المغرر بهم.

وقد دعم هذه المعلومات صحفي فرنسي يدعى ديديه فرانسوا كان محتجزاً مع فولي طيلة العامين السابقين وتم إطلاق سراحه في أبريل الماضي بفدية يرجح أن قطر دفعتها نيابة عن فرنسا، وتكلم فرانسوا للصحف والتلفزيونات الأوروبية عن فترة احتجازه مع جيمس فولي في الزنزانة ذاتها، حيث كشف أنه يعرف منفذ عملية النحر وأنه بريطاني يدعى جون مما يؤكد المعلومات التي سبق نشرها، ولكن ديديه ذكر أيضاً أن جميع الرهائن ومن بينهم رهينة أمريكي آخر يدعى ستيفين سولتوف اختطف في أغسطس 2013م أي بعد عام تقريباً من اعتقال فولي كانوا تحت حراسة بريطانيين من أعضاء عصابة الخنافس البريطانية ذاتها. وقد تم إطلاق سراح فرانسوا ديديه مع رهائن فرنسيين آخرين بينما رفضت الحكومة الأمريكية دفع فدية وحاولت إنقاذ رعاياها بعملية عسكرية فاشلة بعد دخولها مرحلة تفاوض مع الخاطفين. وهذا ما يفسر الضجة القائمة في أمريكا حول افتضاح هذا الأمر والاتهامات الموجهة للحكومة الأمريكية من قبل بعض الأوساط السياسية بعدم الاكتراث بحياة الأمريكيين.

وذكر فرانسوا ديديه للإعلام الأوروبي أيضاً أن داعش اختاروا نحر فولي دون زميله سولتوف بعد أن عثروا في كمبيوتره الشخصي على صور لأخيه طيار في سلاح الطيران الأمريكي، لا سيما وأن أمريكا شرعت في قصف جوي لداعش، وكذلك عثروا له على صور أخرى له في صحبة القوات الأمريكية في العراق حيث لم يسمح للصحافيين -آنذاك- بدخول العراق إلا بصحبة القوات الأمريكية. وحسب بعض المصادر فقد سبق لفولي أن اعتقل في ليبيا أيضاً وتم إطلاق سراحه ليذهب بعد ذلك لسوريا، ففولي وسولتوف على ما يبدو مغرمان بتغطية الحروب في الشرق الأوسط رغم أنها منطقة معروفة لهم ويقدران المخاطر فيها.

وحسب المصادر البريطانية والأمريكية فهناك ما يفوق العشرة آلاف مقاتل أجنبي يقاتلون مع داعش منهم بضعة آلاف بريطانيين وبضع مئات أمريكيين والبقية من دول أخرى بما فيها دول أوروبية وآسيوية وشرق أوسطية. ولكن هذه المصادر لا تفصح عن المعلومات التي لديها عن كيفية تجمع هذه الطوائف؟ ومتى وكيف تجمعت؟ وما الروابط بينها؟ عدا كونها محسوبة إعلامياً على المذهب السني، وأنها تشبه بل وتضم أطيافاً من تنظيم القاعدة السيئ السمعة الذي سبق واستهلك في حروب إعلامية مختلفة في مناطق متفرقة من العالم منها حربان دمرتا بلدين مسلمين بكاملهما وهما العراق وأفغانستان. كما تم ارتهان دول ومؤسسات أخرى جميعها سنية بحجة التحوط من دعم هذا التنظيم. واليوم نحن أمام تنظيم إرهابي جديد أقوى من سابقه، حيث منحته الظروف الغامضة جيشاً حديثاً ومساحة دولة جغرافية كبيرة وأعلن أول أهدافه خلافة إسلامية تلغي حدود سايكس بيكو، تلك المعاهدة التي نسيها معظم العرب على الرغم من أنها تقرر الحدود الجغرافية بين معظم دولهم، وهذا ما يعني بالضبط أحداث فوضى كبيرة في المنطقة حال إلغاء هذه الحدود، فوضىً ظاهرها داعشي وباطنها استكمالا لمخططات قديمة أقرت للمنطقة منذ عقود عدة بعيد سقوط الاتحاد السوفيتي.

وداعش التي ظهرت فجأة وبدون مقدمات، تتعايش بسلام مع أنظمة غير سنية في المنطقة مثل النظام السوري والنظام الإيراني وميشلياته الشيعية، وتقاتل الجيش الحر والمنظمات الإسلامية السنية الأخرى، وعماد تكوينها مساجين سابقين لدى أمريكا في العراق وجوانتانامو ومتطرفين شيشانيين وأوربيين. ونحن يطلب منا أن نصدق أن في زمن حرب مكافحة الإرهاب حيث لا يمرق خيط في عين إبرة، ولا يتحرك دولار في أي حساب بنكي، ولا يعبر مسلم أو عربي أي حدود إلا تحت أنظار المخابرات الغربية، أن نصدق أن المخابرات البريطانية ليست على علم بسفر الآلاف من رعاياها «المتطرفين» لسوريا، وأن أمريكا لم تعرف أن بعض رعاياها أو خريجي سجونها سينتظمون في هذا التنظيم.

ولكن على ما يبدو فالعملية أوسع وأخطر من هذا القتل العبثي، فداعش استهدفت جميع الأقليات التي تعايشت مع المجتمع السني طيلة 14 قرناً بالقتل والتهجير تحت تغطية مبالغ فيها في الإعلام الغربي. وحسب تصريح بطريرك فإنه لا يصدق أن الدول الغربية تسعى حقيقة لإنقاذهم، وأن الهدف هو تهجير مسيحيي الشرق الأوسط للغرب لطمس مرحلة رائعة من التعايش الحضاري على امتداد التاريخ، بل إنه قال صراحة إن الرئيس الفرنسي «فرانسوا هولاند» صرح لبطاركة الكنائس السورية والعراقية أن المنطقة تعيش صراع حضارات وأن عليهم الهجرة لدول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين. وهذا الكلام المشين من رئيس دولة أوروبية كبرى كان سرياً ولم يأخذ نصيبه من التغطية الإعلامية، إلا أن جميع قادة المسيحيين العرب رفضوه علناً. ولكن تهجير وقتل الأقليات الأخرى مسيحية كانت أو يزيدية أو صابئة أو غيرها على يد متطرفين قدموا من مجتمعات مسيحية غربية يثير كثيراً من التساؤلات. فلو أراد المسلمون السنة فعل ذلك لفعلوه لقرون خلت. ثم إن التصعيد الإسرائيلي في غزة، والإيراني في العراق وسوريا أسهم كثيراً في تأجيج العواطف السنية ودفع الشباب السني لبلع الطعم الداعشي على شكل خلافة مصطنعة، وحلم دولة إسلامية. دولة تتسمى بالإسلام بينما تمارس القتل والتهجير والاغتصاب وينسب ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر إلى المسلمين السنة.

ويقال إن أمريكا حققت في العراق من التطهير الحضاري: سرقة المتاحف، حرق المكتبات، طمس الهويات، تقسيم المجتمع طائفيا وتحطيم بناه في عشر سنوات ما لم تحققه إسرائيل في أكثر من نصف قرن، وأن الإسرائيليين كانوا يلعبون دور المستشار في ذلك ويشاركون في التنفيذ. ومعظم ما طمس هو التراث التاريخي العراقي القديم والتراث السني الذي اجتث بحجة اجتثاث البعث، بينما يقوم الأسد في سوريا بالدور ذاته في سوريا بالتدمير الممنهج لكل ما هو سني. فما يجري أمامنا في العراق وسوريا هو تطهير حضاري سني يهدف لخلط المفاهيم الحضارية في المنطقة لعقود مقبلة، وربما لن يتوقف عند العراق وسوريا. وما سيدعم هذا المشروع الخطير هو نشوء أجيال شباب جديدة في سوريا والعراق واليمن وليبيا غير متعلمة بسبب تواصل الحروب، وهي أجيال ستنشأ على العنف الطائفي. فداعش مخطط كبير تدعمه الاستخبارات ليلاً وتناصبه العداء الظاهري نهاراً. وكما يقال فالضحية الأولى للحروب هي الأهداف الحقيقية لها.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب