لو أتينا بعربي مسلم لم يعش فترة التاريخ القريب، وتركناه يشاهد ما تنقله شاشات التلفزيون العربي لجزم بأن ما يشاهده هو أفلام رعب تاريخية تصور أبشع حقب التاريخ الإسلامي، حقب جزم كثير من المؤرخين الإسلاميين المنصفين بأنها إما اختلاقات مسيئة قصد بها تشويه للإسلام، أو أن بعضها كان حقيقيا وتسبب في اندثار حضارة المسلمين.
لكننا للأسف نشاهد هذه المناظر المفزعة اليوم حقيقة ماثلة أمامنا وليتها كانت على بشاعتها أفلاما وليست حقائق. وللأسف تشكل مشاهد القتل البشع اليومي وجبات إعلامية يشاهدها أيضاً أطفالنا وشبابنا بشكل يومي.
أدوار تاريخية مفزعة تتقمصها جماعات مختلفة بشخوص وأزياء وأسماء ومسميات إسلامية. شخوص التبس عليها الزمن فلا تدرك أي عصر تعيش ولا أي دور تلعب، وشخصيات تقتل بأبشع طرق ممكنة. والأخطر من ذلك أنها تعتقد أنها تقتدي بصحابة وتابعين. شباب تشرب من التاريخ الإسلامي حكايات الحروب والقتل والإرهاب بشكل انتقائي مخيف، يطلقون على أنفسهم ألقابا إسلامية بعضها وللأسف ألقاب لصحابة خيّرين، شباب يجز رؤوس كل من يتمكنون منهم كما تجز رؤوس البهائم في المسالخ. والأدهى من ذلك أنهم يجزمون بأنهم بممارساتهم هذه يطبقون تعاليم الإسلام. أبو البراء المكي، أبو قتادة المديني، أبو طلحة البصري إلى آخر ذلك من الأسماء التي يقرب التاريخ والجغرافيا الإسلامية إلى أذهان البسطاء.
المؤسف أن هؤلاء على ما يبدو لا يعلمون ولا يفقهون التاريخ الإسلامي الحقيقي الذي يقوم على التسامح والمحبة مع غير المسلمين، ولا يعرفون أن النبي الذي نقتدي به جميعا أطلق سراح أسرى المسلمين من مشركي قريش في غزوة بدر مقابل تعليم أبناء المسلمين القراءة والكتابة. فالنبي - عليه أفضل الصلاة والتسليم - أراد ترسيخ مفهوم أن الإسلام دين علم وحضارة وبناء. وهم كذلك لا يفقّهون بأن الإسلام وصل الصين وغابات ومجاهل إفريقيا بحسن تعامل المسلمين وبلا غزوات ولا ميكروفونات؛ وأن جميع الخلفاء الراشدين تركوا كنائس ودور عبادة أتباع الديانات الأخرى دون أن يمسوها بل إنهم قدموا الحماية لها، وان الرسول جاور يهوديا وصبر على أذاه، وان علي بن أبي طالب وهو خليفة المسلمين مثل مع خصم يهودي أمام القاضي وحكم القاضي لصالح اليهودي، ولم يعترض علي ولم يتذمر من حكم القاضي الذي كان قاضياً وفقيها.
اللعبة اللغوية في هذه الممارسات العدمية لم تقتصر على أسماء الشخوص فقط بل امتدت أيضاً لمسميات التنظيمات، الإخوان المسلمين، جيش بدر، فيلق القدس، حزب الله، أنصار الله، الجهاد الإسلامي، سرايا الأقصى، مسميات عندما تسمعها توحي بالقدسية والسلام، وعندما تسبر ممارساتها تجدها جميعها تمارس أبشع ممارسات القتل والاقتتال في حق المسلمين وتفر من الدفاع عن حياض المسلمين أمام أي غاز أجنبي متجبر. فحزب الله يقتل كل من يقابلهم من السنة ولا يقاتل أكبر عدو للإسلام على حدوده، ولا يتدخل لنصرة الأبرياء الذي يسلخون ويمزقون أشلاء وهم أحياء في غزة. وفيلق بدر، سمي على أول غزوات الرسول، مهمته سجن واغتصاب حرائر المسلمين وبث الرعب في أحياء من يجرؤن على التذمر من احتلال الإيرانيين لبلادهم سنة كانوا أو شيعة، وفيلق القدس لا يعرف موقع القدس وربما يعتقد أنها حي من أحياء كربلاء. وداعش وغيرها تجز رؤوس من يخالفونهم في المذهب والدين، وتفرض جزية على المسيحيين المسالمين وتعلن إقامة خلافة معاهدة لليهود والإيرانيين.
ولعبة الخلافة كمصطلح لفظي لعبة ليست جديدة، مارسها الأمويون، والعباسيون، والفاطميون، والمماليك، وبشوات مصر، حتى الإنجليز كانوا حريصين على تنصيب خليفة لدى المسلمين يخدم مصالحهم. فالخلافة بعبارة أخرى تعني العصمة ووجوب الطاعة لكل من تسمى بها، فهي تعني أن من يحكم إنما هو يخلف الرسول الأعظم في الأمة وتشكل طاعته امتداداً لطاعة الرسول، والإخوان المسلمين يعتقدون ذلك في طاعة مرشدهم، فطاعته والانصياع له واجبة وجوب طاعة الرسول وخلفائه الراشدين. وفيما عدا الخلفاء الراشدين وخلافة عمر بن عبد العزيز كانت كثير من الخلافات اسمية فقط، ظاهرها اللفظي تقوى وممارساتها ظلم لا يقوى، نهارها عبادة وليلها لا يعلم به إلا وحده. لكن مسمى «الخلافة» يكمل التقمص الدور التاريخي للدور الإسلامي الذي خلط فيه الناس بين نقاوة الإسلام ودنس بعض المسلمين، تاريخ يدرس بشكل انتقائي وكأنما المسلمون السابقون ملائكة معصومون.
وفي مذهب إخواننا الشيعة يأخذ الادعاء بالعصمة شكلاً علنيا، وهناك البعض منهم من يعتقد فعلاً العصمة الإلهية لخامنئي والسيستاني وربما نصر الله أيضا. وبعض السنة ينزلون بعض أئمتهم منزلة مشابهة ولو لم يعلنوا ذلك صراحة، مع العلم أن كثيرا من الآيات والأحاديث نزلت لتصحيح ممارسات أغضبت الله في زمن الرسول من ممارسة بعض صحابته، ناهيك عن زمن من تبعه. فنشأ الكثير منا على تقديس كل ما هو ماض وتدنيس كل ما هو حاضر، أما المستقبل فهو خارج الحسابات لأننا يجب أن نعيد الماضي أولاً حتى ننطلق للمستقبل من نقطة الصفر وبشكل مختلف عما يدور حولنا في واقعنا وفي العالم من حولنا. ولا ننسى دور جمهورية الملالي في إيران التي ساعدت على نبش أكبر فتنة في التاريخ الإسلامية وجعلت من إحيائها كما كانت قبل 1400سنة مشروعاً إيديولوجيا لها. وبنت إيران سياستها على أن التحديث الوحيد المطلوب هو تحديث صناعة السلاح فقط وتقديمه لكل من يريد أن يقتتل بحسابات الفتنة القديمة، حكومة تصنع أبشع الأسلحة ولا تفرق في مفاهيمها بين الصاروخ والبرميل المتفجر والمنجنيق.
المارد المذهبي خرج من القمقم، والتطرف والقتل المجاني عم الديار والسلاح بيد قاتل يقتل كل من يشك فقط في اختلافه معه، أما أعداء الأمة الحقيقيون الصهاينة وغيرهم فقد اقتصر دورهم على بيع السلاح أو حتى تقديمه بشكل مجاني لمن يريد أن يتقمص دوره في أفلام رعبنا التاريخية.
واليوم نشهد بأم أعيننا شبابنا وللأسف يدمرون بكل عنفوان وحماسة كل مقدراتنا ومكتسباتنا التي بذلنا فيها الغالي والرخيص على مدى عقود مضت. المنازل تهدم، المدن تدمر، المطارات والمستشفيات تقصف، الجسور تنسف، الطرق تقلب، الأشجار تقتلع، والحقول تذبل، ودور العبادة والمكتبات تحرق، الآثار التاريخية تدمر، ولم يبقَ لنا إلا من يدعي الخلافة علينا رغما عنا وجنده الأشاوس ممن يقتلون ويدمرون أولاً ويتدبرون ثانياً. كل ما بني في العراق وسورية، ولبنان، وليبيا واليمن هدم اليوم بالكامل لأنه في نظر البعض منا يجب أن نعود لمرحلة الخلافة أولاً ثم ننطلق من جديد في كوكب خاص بنا خلقناه في أذهاننا منفصل عن عالمنا. وللأسف فليس هناك إلا فرجة صغيرة جداً للتفاؤل بالقدرة على إعادة المارد مرة أخرى لقمقمه فإعادته أصعب بكثير من التنفيس له بالخروج، وإشعال الفتن أيسر بكثير من إطفائها.
اليوم نشاهد أطفال ونساء غزة تبعثر أشلاؤهم أمام أعيننا بصور على درجة عالية النقاوة على شاشات فضائيات من أحدث التقنيات، وخلافة المسلمين على قيد أنملة من العدو، وجيش القدس مشغول باغتصاب المسلمات في البصرة وبغداد، وحزب الله يقاتل في الرقة وحلب. ولسخرية القدر فإن المجازر البشعة في غزة لها طابع الرعب التاريخي ذاته، صهاينة تم تعبئتهم بحقد تاريخي ديني بأساليب لا تختلف كثيراً عن صراعاتنا المذهبية، وكتائب الإخوان المسلمين في غزة تختبئ عن العدو في الأنفاق وتطالب الأطفال والنساء بالصمود والاستشهاد، ثم تتهم كل من يعترض على هذه الاستراتيجية البائسة بأنه «متصهين» بالأسلوب ذاته الذي يتهم الصهاينة كل من يختلف معهم بالعداء للسامية.
عندما تنزل النصوص التاريخية منزلة العقائد السماوية، وترفع درجة الاعتقاد بصحتها لمستوى الاعتقاد بالذات الإلهية أو الكتب السماوية، وعندما يتعسف تفسير النصوص بدرجة تحرفها عما أنزلت له يكون ذلك هو السيناريو المحتمل والجاهز لمسلسل رعب تاريخي حقيقي بانتظار مخرج وأدوات تنفيذ. فالنبوءة الإسرائيلية التي يقتل المسلمون والمسيحيون من أجل تحقيقها ليست جزءا من التوراة ولا الإنجيل، لكنها جزء من تفسيرات أضيفت على أناجيل العهد القديم من قبل قساوسة في القرن التاسع عشر. والتكفير وجز رؤوس من نختلف معهم، والعبارات والألفاظ التي يطلقها السنة على الشيعة، أو العكس «كالرافضة» أو «النواصب» لا تمت للقرآن والسنة بصلة، وما هي إلا مجرد اسقاطات متأخرة غذتها خلافات وصراعات سياسية. وحقيقة الأمر وللأسف هي أن دروس التاريخ تعلمنا أنه ما اجتمعت أيديولوجيات عقدية قديمة وسلاح حديث إلا وكان الدمار ثالثهما. والخيار اليوم لنا جميعاً هو إما أن نتعايش أو نتقاتل حتى نفنى، وإذا اخترنا التعايش فلا بد أن نحكّم العقول في كل النقول.