تبدو كثير من خرائط المكان وكأنها صحارى عطشى، يعيش فيها الإنسان ولا يشعر بمحيطها الذي قد تكون مرارة مائه, وهجير أجوائه، اكتشافات جيولوجية مثيرة، تقف الأبحاث عاجزة عن تحليل مكوناتها, وقد لا تبررها الغفلة, ولا تجيزها سلطة النفس اللوامة (ولأيا عرفت الدار بعد توهم)..
فيتوقف الإنسان عن مطاردة الوهم, لكن الوهم يبدأ بمطاردته في صور شتى، من خلال نماذج تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى..
حتى وإن كان المجال لا يقبل المقارنات؛ لأن الواقع دائماً ما يحدث عندما تكون السلطة خارجة عن إطار التخطيط الممنهج، ولا تكترث إلا عندما تضع الأزمات أوزارها؛ فلا بد عند ذلك من إسدال الستار, والانكماش خلف الأمجاد الماضية، والاحتماء بدفئها؛ لعلها تشتعل في خرائط مكانية أخرى، لديها معان اجتماعية معظمة، تستوعب لقطات الفكر, وتنشغل به وله.
وكما أن المطر هو إحدى وسائل الخلاص من موات المكان، ومن جدب الأرض, ومن ظلمة الليالي المقمرة, وهو هبة إلهية في
إضاءات مائية تنشر في الأرض بواعث الحياة, وتجلب دواعي النماء, فإن الإنسان الحكيم لا بد أن يملك تجربة مثلما هو المطر في غزارته وانصبابه, حتى يسقطها على موات عقله, وفوضى سكونه؛ ليعمر مكانه؛ ويستجلب بواعث الحياة والحركة فيه. يقول ابن دريد:
إنما المرء حديث بعده
فكن حديثاً حسناً لمن وعى
نحن البشر عندما نخشى ضجر الحياة بنا ومنا لا بد أن نشتري الحكمة من بين بضائع العقول؛ لتكون لنا دثاراً, ولتكون اللغة التي تتحدث بها نفوسنا, برؤاها وأحلامها, بين إقبال وانكسار؛ عندها نستطيع أن نتجاوز مغبة الخلط بين ما يجب أن يبقى أصيلاً في نفوسنا، وإن أحرقه الهجير, وما يتحول إلى محض آثار, وأطلال عفت محلها فمقامها.
ولأن صور الوعي عند العقلاء دائماً ما تقترح إجابات أخرى قد لا تستند في مجملها إلى الظن, في تفسير المواقف العابرة وغير العابرة، فإن العقلاء يجب أن تكون لديهم مهارة استشراف مستقبل البداية والنهاية؛ ويجب أن يعرفوها أصنافاً وأوصافاً. كما أنه من الأهمية ربط المعطيات المعرفية عن الواقع بالفهم الصحيح، وألا يستند فيه إلى رؤى سابقة؛ كانت تقف لتحافظ على حياتها في خريطة ذلك المكان فحسب..
قال الحكيم الخبير: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (139) سورة آل عمران.
كم نحن في حاجة ملحة إلى ضبط الانفراط في الذاتية. وربما كان بناء الأحكام المسطحة أحد الأسباب التي لا تجعل الحياة تتخلص من أطواقها المعتمة..
ولعلها فروض زمن ألجأت النفس لمجاراتها. وقد تكون اختلافات في النظرة إلى الأولويات، أو أهداف لا تلتقي في مبدأ, ولا تسير في مصلحة. وهنا تكون المفارقة..
حين يعلو الإيثار يدعمه الوعي, والخبرة, وارتواء الفكر, وسلامة التوجه.. وعندها يكون الإصلاح مطلباً, واستجلابه ليس من الخوارق، ولا من فلتات الزمن، وتكون الفضائل نحن أحق بها وأهلها. وعندما تسمو النفس عما يحيط بها من الاستخفاف بالآخر, قال تعالى {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (60) سورة الروم, عند ذاك يكون قبول الشفاعة وأمصال المناعة للعودة إلى مكان الخريطة, أو خريطة المكان..
ومع الاعتذار لشاعر الفراقية ابن زريق أقول:
وكم تشفع بي عند الرحيل ضحى
وللضرورات حال لا تشفعه