وقفت أتأمل قول عبد الله بن المقفع: (اكتبوا أحسن ما تسمعون, واقرأوا أحسن ما تكتبون, واحفظوا أحسن ما تقرأون, وتحدثوا بأحسن ما تحفظون؛؛؛).
نعم لقد أذهلتني هذه الانتقائية، التي رصدها ابن المقفع؛ وجعلتني أتساءل عن صناعة كتاب اليوم,
وأدوات الثقافة التي يجب أن نعشقها، ونتعاشق معها، فالساحة الثقافية اليوم مفتوحة أمام جميع الفئات؛ لنشر المبادئ المثلى، وإضاءة الفكر المجتمعي, وشحذ الهمم, للنهوض, كما أنها تستوعب محافل أخرى من صيد الأذهان، وقطوف الفكر وشذرات العقل، وحتى نتمكن من الانتقائية التي حددها ابن المقفع؛ لا بدّ من انعطافة مفصلية، في صناعة الكتاب الثقافي في بلادنا الغالية, حيث وادي عبقر، وحيث تربى سيد العرب محمد -صلى الله عليه وسلم- وأعلام الخلافة الإسلامية، وحيث البوادي الثرية التي كانت مقصداً لقوافل الباحثين عن الفكر والمعرفة في العهود القديمة، واستحصاد الرأي وقوة العارضة، ويسعدني أن أرصد منطلقات تمكين صناعة الثقافة للقائمين عليها في وزارتي الثقافة والإعلام، والتربية والتعليم, وإن كانت ليست على شاكلة تصنيفات ابن المقفع التي أوردها في قوله أعلاه، إنما هي إشارات وملاح, قبل أن تغادر شهرزاد ساحة الهذر المباح، نعم هي أحلام أرجوها, وآمال طالما تعلقت على جدران ذاكرتي, وتسلقت أغصاني، واستقرت في وجداني، يتصدرها أن تتبنى الجهات المعنية مشروعاً ثقافياً مضمونه تعصير التراث, وصناعته بأدوات الحاضر, وصياغته بأسلوب ميسر, وإيجاز مطولاته, واختزال متونه ومجلداته مع إحاطة مضامينه بأطواق من الحماية عن التحريف والتبديل والتغيير, ليخرج التراث العلمي والأدبي (الثقافي الأصيل) من حصاراته المتعددة وحصونه الممنوعة التي لا يستطيع اختراقها في هذا العصر سوى المتخصصين وأولي العزم منهم, وربما يكون هذا الاختراق خلال حاجة البحث عن معرفة أو توثيق معلومة أو الوصول إلى ترجيح معلوماتي لمصادرة عديدة.
إن هذا المشروع سوف يخرج التراث من أكنانه إلى عالم اليوم, وثقافة العصر, وإلى الإعلام بأشكاله وقنواته، وإلى مكتبات المدارس الخاوية عن متونها, وإلى المكتبات العامة والخاصة، فيحتفل بها عالم المثقفين اليوم بكافة الفئات والأعمار, إضافة إلى أن المشروع سوف يؤسس مكتباتنا اليوم لنغمات ثقافية جديدة تلبس حللاً جديدة أيضاً، مع المحافظة على أصالة التراث ورونقه وبريقه وقدرة معلوماته على إحداث المعرفة وفصل الخطاب.
ومما يحدوني الأمل إليه أيضاً أن تتحقق من خلال الكتاب السعودي صناعة ثقافية يراهن عليها العالم من حولنا, مضمونها الرؤية العميقة, والاعتدال والعدل, واللغة الهادئة, والصوت العاقل, ثقافة يعتدل من خلالها المائل, ويعذب الماء, (وتصبح الأرض مخضرة)، وتتحقق بموجبها مقولة الشاعر:
أعز مكان في الدنا سرج سابحٍ
وخير جليس في الزمان كتاب
وختاماً فإن ضحالة الفكر الثقافي، وانحداره, وانهيار قيمة التعبير, واستجلابه من آفاق ربما كان حضورها يجعل صناعة الكتاب المحلي (يتوارى من سوء ما بشر به)، يحتاج إلى أن تكون لدى المرجعيات المعنية بصناعة الكتاب حقائق مقنعة يدفع بها للمؤلفين, ويقبلها المتلقي, وأن يبحث عن بدائع الفكر, وجليل القول, وان يحفز الناشئة على القراءة الناقدة, وأن يحتفل بصناعة الكتاب الخلاق، كما يحتفى بمعارض الكتاب وخزائنه.
نعم نحتاج صناعات ثقيلة للفكر من خلال الكتاب، يحيطها قدر كبير من الانفتاح على المجتمع، وأن يكون موقفنا من هذا التراث الثقافي الضخم في عصر العلوم والفنون والمخترعات، وعصر تواشج الأمم وتقاربها واندماجها، موقف المفاخر المستفيد بمــا تحتويه أكنانه، وما تختزله من فكر أسلافنا، وأن يكون ذلك منطلقاً لصناعة المجتمع الثقافي في بلادنا.
يقول ابن الرومي:
أما ترى الغرس لا تذوي كرائمه
إلا على سوقها في سائر الأبد