أقبل: على أفعل هكذا هو ميزانها الصرفي من غير نكير.
يقال: أقبل الرجل إذا جاء.
وأقبلت المرأة إذا جاءت.
يعني: أقبل وأقبلت رأي العين.
وأقبل جاء من بعيد أو جاء من قريب سيان لأن الوصف للإقبال يشمل هذا.. وذاك.. ويدخل هذا (اللفظ المعنى) فيقال: أقبل برأيه وأقبل باجتهاده بمعنى بذل وأبدى الرأي وأفصح عن اجتهاده.
ويعتري هذا اللفظ (أقبل) ما يعتريه من لوازم التصرف.
فيقال: أقبل بكسر الباء على سبيل السؤال.
ويقال: أقبل بضم اللام على سبيل فعل المضارع.
ويقال: اقبل بكسر الألف على سبيل فعل الأمر.
وقد جاء في الذكر الحكيم والسنة الصحيحة وشعر العرب ما يدل على هذا كله.
والإقبال من هذا ضد: الإدبار.
وهذا له معناه وحسه بدلالة ما يلازمه من القرائن، وهذا يدرك كذلك بالتذوق.
وبمناسبة هذا يضطرني القول هنا كما اضطرني من قبل أن أبين حقيقة لا بد منها حيال ما يتم اليوم تناوله من مقالات وزوايا تكتب في أمور تقع على شكل وشكل بين كاتب وكاتب، وأعجب كما يعجب غيري، أعجب كثيراً أن الذين يكتبون في نقد أو نقاش أو ملاحظة على رأي أو وجهة نظر أو فهم خاص يميلون كل الميل إلى أساليب يكررونها وهي لازمة عجيبة حتى اللحظة، لا أدري سببها من ذلك مثلاً:
1 - الطرح الإنشائي العجول.
2 - الإلزام بالرأي(1).
3 - بعض ألفاظ التهكم.
4 - بعض السخرية المبطنة.
5 - تضمين مثل هذه العبارات:
1 - (هذا المريض الجاهل).
2 - (دع.. أو دعوا هذا العلم لأهله).
3 - (هذا المتطفل المسكين).
4 - (هذا تحجر في الرأي المتشدد).
5 - (فضمنا عند العالم كله).
حاول جاداً.. مركزاً.. متجرداً التجرد كله أن تقرأ مثل هذه المقالات التي أصحابها لا أشك أنهم: ذوو نية جيدة وتوجه جيد، وذوو حرص على الخير حاول القراءة لواحد منهم مرتين بل ثلاث مرات على مواضيع مختلفة فسوق تجد ما ذكرت آنفاً (2).
ولهذا لا تجد من يناقش هذا النوع أو يرد عليه.
ولماذا يفعل والطرح إنشائي وعجول.
وفيه: جزم وسخرية وإلزام بما يراه..
إن سبيل الكتابة العاقلة الكتابة الفاضلة الكتابة الصالحة المّصلحة إنما بالتعقل جداً والرزانة وحسن الخلق وسلوك سبيل جمال الطرح الخالد الكريم.
وإنما مثل هذا يحتاج إلى مثل:
1 - مقدمة لطيفة هادئة.
2 - عرض الرأي الآخر بتمام خلق حسن.
3 - إظهار الفهم الخاص لذلك الرأي.
4 - بيان الرأي الذي يراه الكاتب بهدوء تام.
5 - ترك الانتصار الفج العجول.
6 - الابتعاد عن السخرية جداً (لأنها قد تكون إسقاطات نفسية لا يعيها الكاتب نفسه وهو يذم نفسه)(3).
7 - محاولة فهم الرأي الآخر بتمام سعة نظر جيد وتمكن إطلاع واسع.
8 - ترك (الحلال والحرام) لأهله من العلماء المعروفين بالتحقيق والرواية والدراية.
9 - عرض الرأي أو الكلام المكتوب جيداً دون بتر أو انتقاء ثم مناقشته شيئاً فشيئاً بروية وعمق وبعد نظر ثم إبداء المخالفة دون سخط أو سخرية أو لمز أو غمز أو تعلم فج(4).
10 - حفظ الآثار والقواعد جيداً وهل هي: صحيحة أو ضعيفة؟ وذكر المصدر كذلك.
11 - ترك الحكم على الرأي أو الشخص إنما النقد أو الملاحظة تحوم حول ما تم طرحه ليس إلا.
12 - ضبط الكلام جيداً وقراءته إلى عشر مرات قبل نشره.
13 - ترك الإستعداء لأن هذا ضار وفيه مهلكة.
14 - جَنَحَ من كان قبلنا من كبار العلماء ومن الذين امتهنوا صناعة الأدب والتاريخ وكذا: السياسة والاقتصاد جنحوا إلى طرح مميز جد، مميز حيال الاختلاف بل كذلك الاعتراض على الأسلوب المستوفي الناهض بمقاييس رجاحة العقل وسؤدد الخلق دون توجه شائن صوب الذات أو صوب لي الكلام أو لي الاتجاه أو لي النية وإلزامها بما لا يلزم.
1 - فهذا الإمام البخاري والإمام الذهلي اختلفاً.
2 - وهذا الإمام أحمد بن حنبل والإمام علي بن المديني اختلفا.
3 - وهذا الإمام مالك والإمام ابن إسحاق اختلفا.
4 - وهذا الإمام الذهبي والإمام ابن القيم الجوزية اختلفا.
5 - وهذا الإمام الكسائي والإمام سيبويه اختلفا.
6 - وهذا الإمام ابن هشام والإمام ابن عقيل اختلفا.
7 - وهذا الإمام ابن حجر والإمام العيني اختلفا، ثم ماذا؟..
اختلف كثير من العلماء وهو مدون في الأسفار لكنه كان اختلافاً نتج عنه التجديد عبر تطاول العهود حتى في السياسة بين أحمد وابن المديني زمن المأمون جرى ما جرى لكنه كان اختلافاً خالداً ينبئ أو ما ينبئ إليه الطلب الحق والمراد الصواب على كل حال.
بل اقرأ بتروٍ وتأنٍ بعد قراءة هذا الجزء من (المعجم) مقدمة: (سورة هود).
تجد هناك كيف كان العقل والحجة والبرهان؟
وكيف تم معالجة الخفايا ممن لا يعلم الخفايا إلا هو؟
ولعلك حين تعود إلى الجزء 5 و6 وج7 من: (تاريخ ابن كثير).
(البداية والنهاية).
ج5 ص9 - 213 وج6 ص19 - 300 وج7 حتى ص 181.
لعلك حين تعود إلى هناك خاصة السنة التاسعة (عام الوفود) ستجد الجدل.. والاختلاف والمعارضة بين: دليل ودليل وقاعدة نصية وأخرى مثلها فإنك هناك سوف ترى كيف تم تولد نضوج العقل..؟
وكيف تم فقه الواقع؟
خاصة مع: (وفد نجران) ووفد (عبد قيس) و(ملوك اليمن) و(البحرين) هناك.. هناك.. فقد ولا جرم يمكننا معالجة وضع الكتابة الإنشائية العجولة إلى الرصانة وقوة العقل الناشد الصواب به.. أو عليه.
زمن يسير.. ميسر جداً تقضيه (قارئي العزيز) مع (ج5 و6 و7) هذه الأجزاء الثلاثة من: (البداية والنهاية) تعطيك عكس بعض ما هو حاصل في هذا الحين.
بل لو نظرت (أدب الكاتب) (للإمام ابن قتيبة) أو (منهاج السنة) للإمام ابن تيمية أو (الرد على المنطقيين) له، أو نظرت: (التعليل) للإمام ابن قيم الجوزية لوجدت المتمكن الأمكن من النضوح والتروي والتجرد وقوة العبارة ونشدان الحق والنحو صوبه كائناً ما كان الحال.
ألسنا نحتاج بعد إلى مثل هذا؟
ألسنا نحب الذكر الحميد؟
ألسنا نحجب أنفسنا عن (كل شيء يروينا)؟
ألسنا أحق بحمد المقالة على كل لسان؟
عاود القراءة مراراً لهذا الجزء فعلك يحصل لك في الثالثة ما لم يكن في الأولى.
** ** **
الهامش
(1) سورة هود - بتأمل عميق حتى آية (24).
(2) أدب الكاتب للإمام ابن قتيبة من ص 9 - 115.
وفتح الباري للإمام ابن حجر ج2 من ص 5 - 51 - 213.
(3) الأحكام للإمام الآمدي م -1 ص3 - 211.
م - 2 ص 8 - 59 - 111.
(4) سورة القصص بتأمل عميق حتى آية 54.