تعد تجربة داعش وغيرها إعلانًا صارخًا لخطورة التطرف الديني، وبعدما شهدنا المذابح للمخالفين، والتهجير للأقليات، هل أصبح الإسلاميون أقرب إلى الاقتناع أن دولة المؤمنين التي تفرض على الناس رؤيتها واجتهاداتها بالعنف لم تُعدُّ صالحة لهذا الزمان، وأن الشعوب لن تقبل أن توضع أرقابها على حد الساطور، وأن يبايعوا البغدادي أو غيره، على أنه خليفة الله في أرضه؟
قبل عقود مضت دأب بعض الإسلاميين على نقد ومهاجمة مفهوم الوطنيَّة ونعتها بالوثنية، والوصف له مغزى، ولم يكن مصطلحًا عابرًا أو جاء من لغو الحديث، فتشبيهها بالوثنية له مغزى، لأن الوطنيَّة في مفهومها الحداثي تعني قبول فكرة التعدد، وأن هوية الوطن تأتي قبل الدين والطائفة، وهو ما يعني قبول التعددية الاجتماعيَّة والثقافية والسياسيَّة، ودخول التيارات المخالفة في مجال العمل الاجتماعي والسياسي وهو ما كان يرفضه بعض علماء الدين المتطرفين.
لكن الرؤية تغيَّرت كثيرًا عند بعض العلماء المتنورين، لكن ذلك لم يخرج بعد في أدبياتهم وخطبهم في يوم الجمعة وفي مقالاتهم وفي المناهج التعليميَّة، لكن تأييد بعضهم لمفهوم الوطن المتعدد بعد مرحلة الثورات قد يعني قبولهم بمنطق الوطن الحديث، وأن الوطن يعني العدالة والمساواة بين المواطنين مهما كانت خلفيتهم العرقية أو الطائفية، لكن الثقة بينهم وبين التيارات الأخرى مازالت شبه معدومة في ظلِّ غياب الحكم الشرعي بمفهوم الوطن للجميع.
كذلك كان الموقف الشرعي من حقوق الإنسان هو التحريم لأنه يخالف أصول الإسلام، ويفتح الباب للكبائر حسبما يزعمون، برغم من أن أكثر فصوله تنتصر للمظلومين في البلدان، وتاريخ حقوق الإنسان بدأ في أوروبا عندما قام المفكرون والمصلحون في أوروبا خاصة يحذرون من هذا الظُّلم والعدوان الذي تتعرض له الأقليات، ويدعون للاعتراف بحقوق الإِنسان، وكان إعلانه الأول في فرنسا، عام 1789م، وكان دوره في البدء التوعية بحقوق الأفراد، حتَّى صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948م.
تبدَّل موقف التحريم خلال العقدين الماضيين، وتَمَّ إقرار مبدأ حقوق الإنسان شرعيًا، وطالب بعضهم بإصدار جمعيات تتابع انتهاك حقوق الإِنسان، وتَمَّ تقديم ذلك التغيير إن الله عزَّ وجلَّ كرّم الإِنسان، وأن الشرع الحنيف جاء أصلاً من أجل الإِنسان، وأن مقاصد الشريعة المقررة أساسًا هي المنطلق الرئيس لإنسانيَّة الإِنسان، وهي المرجعية الوحيدة لحقوق الإِنسان، لكنهم لم يقدَّموا تبريرات لمواقفهم السابقة.
منذ عامين وبالتحديد بعد بدء الثورات العربيَّة، اختلف الإسلاميون على ثقافة الديموقراطية، وهل تجوز أن يتداول الإسلام السياسي السلطة مع أصحاب التيارات القومية والليبرالية واليسارية، وقد كان هناك بعض القبول المشروط بتحديد الدستور ضمن إطارات طائفية، كان لها تبعات، أدت في نهاية الأمر إما إلى الفوضى أو الانقلاب الثوري.
لكن ما يبدو أن الوضع الفوضوي المعاصر ينذر إما إلى انقسام الدول على أسس طائفية أو الرضوخ لحكم دكتاتوري من قبل المنتصر في الحرب الأهلية، الذي لن يحدث، فالوعي السياسي عند الفئات المُتعدِّدة أصبح يتشكّل من ممانعة صارمة ضد الحكم القسري، مثلما يحدث في العراق، سواء في شماله أو جنوبه، وقد يحدث في مستقبل سوريا وليبيا وغيرهما.
يعود سبب ظهور جماعات داعش والنصرة وغيرهما من الأحزاب المتطرفة مثل حزب الله والأحزاب الأخرى المبنية على الطائفية إلى تدريس مناهج للتعليم ترسّخ الأحادية والتطرف في العالم الإسلامي إلا من استثناءات، الذي يغرس في عقول تلاميذها أن اتباع الحزب أو الجماعة على الحق وحده، وأن غيرهم من الضالين الذين لا تجب مصالحتهم أو حتَّى التعايش معهم، إلا حسب ظروف سياسة تستدعي الهدنة، ثمَّ الانطلاق نحو الوصول إلى الأهداف التي تمكنهم من الاستحواذ بالأمر.
في ظلِّ هذا الانقسام أصبح علماء المسلمين المتنورين ومفكريهم في أمس الحاجة لإعلان يدعو إلى الوطنيَّة والمدنية، وإلى ثقافة ديموقراطية تُدرس في المناهج التعليميَّة، وأن يَتمَّ إصدار اجتهادات شرعية تمهد للتحول من الدَّولة الأحادية إلى الدَّولة المدنية المُتعدِّدة الثقافات، وأن الدين في سماحته وعدله وأصوله لا يفرض مبادئه قسرًا على المخالفين، بل يمنحهم حقوقهم تحت مظلة وطنيَّة مدنية.
ختامًا لا استعبد أن يَتمَّ قريبًا، وفي شكل عاجل البحث عن مخارج شرعية للوطن الذي يقبل التعددية، ويقوم على حقوق الإِنسان، ويرفض العنف والدم، ويتخاطب من خلال لغة براغماتية غير صدامية، ويعمل من خلال أطر مدنية ديموقراطية، وذلك لأن الاقتتال الحالي لن يخرج أحد منه منتصرًا، ولكن سيموت بسببه مئات الآلاف من الأبرياء، وسيُؤدِّي إلى اغتيال لمدخرات الأوطان، عندها سنعود عشرات السنين إلى الخلف، ثمَّ نأسف في يوم لا ينفع فيه الندم على ما علَّمناه أبناءنا من تطرف وعنف، والله على ما أقول شهيد.