كانت إجابة مسؤول عربي عن موقف بلاده المتخاذل من الحرب على غزة، أن خلافهم مع المقاومة الفلسطينية في غزه عقائدي، وحينها تساءلت كيف إذن يصف علاقته مع المحتل الصهيوني للأرض العربية؟ وهل أصبحت العقيدة الصهوينية في هذا الزمن أقرب للبعض من الاختلافات الأيدولوجية بين أبناء الوطن الواحد.
حدث شيء مثل هذا في التاريخ العربي، أثناء احتلال الفرنجة للأراضي العربية في فلسطين، حيث كانت بعض الدول العربية تدين بالولاء للإمارة الأوروبية في القدس، وكان الغرض من إرضاء الغزاة المحافظة على الأطماع الشخصية، وإن كان ذلك على حساب مصالح المنطقة العربية، والتي كانت منذ الأزل تنجح في طرد الغزاة عندما تتحد قواها ضد المحتلين، وقد أشاد رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام بانتصار العرب في يوم ذي قار على الغزاة العجم، حين قال: هذا أول يوم انتصف فيه العرب من العجم، وبه نصروا.
كنت دائماً أبدي إعجابي باستخدام المؤرِّخين العرب لمصطلح الفرنجة بدلاً من الصليبيين، الذي كان شعار الحملة الغربية على فلسطين في تلك القرون، ورسالة المؤرِّخين لنا عبر التاريخ أن القضية ليست خلافاً أيدولوجياً معهم، وأن استعمال مصطلح الفرنجة لوصف الغزاة، يعني أن الحروب كانت ضد الغزو الأوربي للأرض العربية، وليس ضد معتنقي الديانة المسيحية، وهو ما يعني الرفض التام للمهادنة مع الغزو الأجنبي مهما كانت أيدولوجيته.
في تاريخ فتوحات المسلمين الأولى، كان المؤرِّخون الأوائل يستخدمون مصطلحات الروم وفارس لوصف حروب المسلمين معهم، ولم يذكروا في كتبهم أن الحرب معهم كانت بسبب ديانتهم النصرانية أو المجوسية، فقد كان معظم سكان الشام العرب نصارى، وهو ما يثبت أن الغرض من الفتوحات ليس الكراهية أو الاختلاف الأيدولوجي، ولكن لأغراض سامية، منها طرد الغزاة الأجانب للأراضي العربية.
لهذا السبب ليس الموقف ضد المحتل الإسرائيلي مبنياً على الاختلاف الأيدولوجي أو كراهية اليهود، ولكن له علاقة بمنطق الغزو الأجنبي للمنطقة العربية، وطرد شعب عربي من أراضيه، ثم عزلهم في مناطق ضيقة جداً، وفرض حصار اقتصادي وسياسي ضدهم، لذلك لا يجب أن نغتال روح المقاومة في الشعب العربي المحتل، وأن نعمل على تجاوز أي خلاف فكري أو سياسي عندما تكون المواجهة بين المحتل والمقاومة العربية.
تردد على سمعي منذ الصغر كلمات مثل المصالح العليا للأمة العربية، والأمن القومي للوطن العربي، وقد كانت القمم العربية في أزمنة مضت تُعقد لإعلان مواقف عربية موحّدة، بالرغم من اختلاف الأيدلولجيات الحاكمة للأوطان العربية آنذاك، فالطبيعي أن نختلف أيدولوجياً، لكن من غير الطبيعي أن نتحالف مع العدو المحتل للأرض العربية.
في حرب 1973 توحّد العرب بالرغم من التنافر الشديد في مرجعياتهم الأيدولوجية، وحققوا انتصاراً معنوياً ضد الغزاة، وحسب وجهة نظري قلت حدة التنافر الأيدولوجي عن ذلك الزمن، فقد اختفت الشعارات الماركسية والقومية، وقلت حدة التنافر بين الهوية العربية والهوية الإسلامية، لولا ثورة الجنون الطائفي، والتي كان سببها الضعف العربي في مواجهة الثورة الفارسية في إيران، والتي تستخدم الفتنة الطائفية من أجل إضعاف الجار التاريخي.
أخيراً، لا بد أن تعود المواقف الموحّدة في مواجهة الاحتلال، وأن تعود تربية الأجيال القادمة على أن الأراضي العربية خط أحمر على الغزاة، وأن لا مهادنة أو صداقة أو حتى مغازلة مع من احتل الأرض العربية وقتل النساء والأطفال، فالتاريخ العربي بعد طرد الفرنجة من فلسطين لم ينس أولئك الذين قدّموا ولاءات الطاعة للحاكم الفرنجي في القدس من أجل تأمين حكمهم ومطامعهم الشخصية، والله المستعان.