ظاهرة غريبة لم ولن ترى مثلها في أي منطقة في العالم عدا في دول الخليج، التي تشتهر بنمطها الاستهلاكي المخيف في الشراء والتسوق، والذي لم يعد يقتصر على الثياب والحقائب والمجوهرات وغيرها من مكملات الزينة وتحسين المظهر، بل امتد إلى أواني الطعام والسفرة من صحون وأباريق وفناجين «وترامس» وبوادي وغيرها، بألوان وأحجام وأشكال لا تخطر على بالك، كل ذلك وأكثر ستجده في مئات بل آلاف المحالات التجارية المتخصصة حصرا ً في بيع مثل تلك المنتجات، حيث مررت قبل أيام بمحل تحسبه من ضخامة حجمه وازدحام زواره واتساع مواقف سياراته مركزاً تجارياً كاملاًً ومستقلاً، فاتضح لي من اسمه أنه متخصص فقط في بيع الأواني، هذه الظاهرة قد تبدو عادية للوهلة الأولى، لكن باطنها يفضح خللا ً اجتماعيا ً صارخا ً في النمط الغذائي الذي يحتفي بالصحون الكبيرة و»البوادي» الضخمة، ويحتقر تلك الأطباق الصغيرة التي ارتبطت ذهنياًً في عدم إكرام الضيف وإهانته في حال تقديمها له، فكما يقول الدكتور غازي القصيبي رحمه الله: «الكرم عند العرب ظاهرة غذائية» لذا غرقت جمعاتنا بأطنان من الأواني البلاستيكية الكبيرة المغطاة بكميات هائلة من الحلويات والمعجنات، وفاضت أعراسنا «بصواني» تقديمات تعجز عن حملها عاملة واحدة من ضخامتها وثقل محتواها «بوادي» تحمل فوق ظهرها جبالاً من الأرز الذي غالباً ما تجد نصفه يقضي باقي الليلة في حاوية النفايات.
إنّ هذا الإقبال الكبير على اقتناء أواني الطعام وتنامي ظاهرة استيراد تلك المنتجات الصينية، وعرضها في سوق ذي شهية مفتوحة للشراء والتخزين، يكشف لنا حجم الملل والروتين الذي يطغى على أسلوب حياة العوائل السعودية، الذي جعلها تفر بأطباقها وأوانيها إلى الجمعات المغلقة والاستراحات المستأجرة في أطراف المدن، هرباًً من «الطفش» الناتج عن قلة بل انعدام مناشط ومتع الحياة، من متاحف ومسارح وسينما وعروض فنية أو ثقافية حية. فأصبحنا نتصدّر قوائم الشعوب الأكثر إصابة في السمنة والسكري وأمراض القلب، التي تستنزف مليارات الريالات في سبيل معالجة أو تخفيف وطأة تلك الأمراض المخيفة التي صنعها أسلوب حياتنا.
إدمان شراء الأواني وتزيين السفر وملئها بما لذّ وطاب من الحلويات والموالح، لم يعد حصرا ً على الأمهات أو النساء اللاتي تجاوزن الأربعين أو الخمسين، بل أصبح صيحة رائجة لدى الفتيات وصغار السن اللاتي يتنافسن «انستغرامياًً» في الفوز بأكثر عدد من (اللايكات) التي ترضي غرورهن وتملأ فراغهن الداخلي، فخرج لنا جيل جديد يتسم بالسطحية ويحتفي بالمظهر على حساب جوهر تلك المناسبات الاجتماعية.
أخيراً .. لكم أن تتخيلوا حجم الخسائر الصحية والمالية والوقتية، إن استمررنا على هذا النهج الاستهلاكي المخيف من نزف المال، وتدمير الصحة، وإهدار الوقت ونحن نرتب وننظف ونلمع تلك الأكوام المتراكمة من الأواني، بدلا ً أن نقضي أوقاتنا في اكتشاف الحياة واقتناص أروع لحظاتها.. ليبقى السؤال الأهم: متى ندرك أنّ العبرة في النوعية وليس الكمية؟