الأحداث الملتهبة على الساحة العراقية، والتطورات الميدانية الخطيرة في القتال الدائر بين جيش حكومة المالكي المدعوم من إيران والولايات المتحدة الأميركية، وبين ثوار العشائر، وضباط جيش صدام، ومقاتلي (داعش)، والبعثيين.
تلك الأحداث والتطورات لم تكن نتاج سياسة طائفية جائرة ضد المجتمع العربي السني،
التي انتهجها المالكي خلال سنوات حكمه للعراق فحسب، إنما نتاج تراكمات سياسية سلبية، وأوضاع اقتصادية مزرية، وتدخلات إقليمية عبثية -كما تفعل إيران- على حساب السيادة العراقية ومصلحة شعب الرافدين، وقبل كل ذلك الاحتلال الأميركي، الذي أوجد واقعاً جديداً في العراق عقب غزوه العام 2003م، تمثل بإحداث الفوضى الأمنية العارمة، التي حوّلت العراق إلى غابة أسلحة، وساحة صراع بين الاستخبارات العالمية، إلى جانب استقطاب التنظيمات الإرهابية، سواء كانت سنية، أو شيعية، ولعل أبرزها تنظيم القاعدة، وفيلق بدر، وجيش القدس الإيراني.
إن المتأمل في خطاب جورج بوش الابن في الخامس من يناير 2002م، يمكن أن يتلمس بداية المشكلة، عندما وضع العراق ضمن دول محور الشر إلى جانب كوريا الشمالية وإيران، ومزاعمه أن العراق يهدد الأمن القومي الأميركي بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، ثم حديثه عن وجوب إسقاط نظام صدام الديكتاتوري وتطبيق الديمقراطية في الشرق الأوسط لتنعم شعوبه بالحرية والسلام بداية من العراق، ذلك الخطاب كان يعكس سياسة الكاوبوي القائمة فرض السياسات بالقوة، دون الاعتبار لظروف الدول وثقافات الشعوب المستهدفة.
ما يجري الآن في العراق هو امتداد لتلك السياسة القهرية، ولعلها المرحلة الأخيرة أو قبل الأخيرة من مراحل ولادة دولة (العراق الجديد)، التي تمثلت بـ(الحصار الاقتصادي، ثم التأليب الدولي، ثم الغزو العسكري، ثم الاحتلال، ثم الاحتراب الداخلي، وأخيراً التقسيم الجغرافي)، هذه المراحل وضع الأميركيون بذرتها الأولى وملامحها الرئيسة ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد، الهادف إلى تفتيت المنطقة العربية وإعادة ترتيبها، حيث بدأ مشروع الدولة الجديدة باحتلال العراق، ثم إسقاط مؤسساته، وتسريح رجال الأمن، وحلّ جيشه النظامي، ثم حكم عسكري أمريكي لتنظيم العملية السياسية الانتخابية، تبعه إعادة بناء الجيش ومؤسسات الدولة وفق الرؤية الأميركية، وانتقال الإدارة السياسية للعراقيين، التي تحققت برئاسة انتقالية مؤقتة وتشكيل الأحزاب، ثم وضع دستور جديد العام 2005م، وإجراء انتخابات تُوجت برئاسة المالكي، ثم انسحاب الجيش الأميركي في 18 ديسمبر 2011م، بعد أن ضمن الأمريكان وجود جيش عراقي كلف تدريبه وتجهيزه أكثر من 25 مليار دولار.
لكن هذه المراحل التي جرت تحت مظلة الاحتلال الأميركي صاحبها حركة مقاومة شعبية سنية وشيعية، انتهت إلى الفشل والتراجع، فالمقاومة الشيعية توقفت تماماً بعد الفتوى الشهيرة للمرجع الشيعي السيستاني بوقف المقاومة والاشتراك بالانتخابات، والمقاومة السنية تشوهت وتمزقت بعد ظهور تنظيم القاعدة بزعامة الزرقاوي على مسرح الأحداث، وقيامه بخلط الأوراق بين أعمال المقاومة الشريفة، التي كانت تستهدف قوات الاحتلال وبين الأعمال والتفجيرات الإرهابية، التي كانت تطال الأسواق والتجمعات الأهلية ويروح ضحيتها الأبرياء.
كما صاحب تلك المراحل احتقان طائفي بين السنة والشيعة غذته إيران وممارسات حكومة المالكي مع صمت أميركي مريب، نتج عنه تهميش أهل السنة واستبعادهم من العملية السياسية، وملاحقة العلماء والسياسيين السنة.
وبالتالي ظهرت تجمعات ساحات الاعتصام في مدن المثلث السني في نهايات العام 2012م، التي أفضت في نهاية المطاف إلى الحرب الدائرة بين جيش المالكي من جهة ومن جهة أخرى ثوار العشائر، وضباط جيش صدام، والبعثيين، ومقاتلي (داعش) حتى سقطت بيدهم الموصل ثاني أكبر المدن العراقية.
أمر آخر، وهو ما يتعلق بالدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، فهناك شكوك وغموض حول هذا التنظيم الذي تأسس العام 2006م، وأعلن باسمه الحالي العام 2011م، من حيث ولائه الحقيقي، وتكوينه الفعلي، وأنه صنيعة استخباراتية، يُستخدم في ساحة الصراعات الدائرة في أراضي العراق وسوريا، بدلالة سرعة تحركاته على الأراضي، وتجهيزاته، وقيامه بفظائع دموية ضد خصومه، وكذلك عمليات قتالية ضد الجيش الحر، الذي يمثل الثورة السورية، فضلاً عن دوره المشبوه في تشويه المقاومة العراقية بأعماله الإرهابية. ما يجعل المخاوف مبررة من أنه ذريعة إيرانية غربية لضرب ثورة عشائر السنة التي قامت ضد مظالم حكومة المالكي.
كل ذلك يقود إلى تساؤل يبعث على الحيرة مما يجري في العراق، وهو: هل الحالة القائمة طبيعية في سياق أحداث متتابعة، أم هي مرتبة وفق مخطط ينتهي بتقسيم العراق فعلياً؟ لأن تسارع الأحداث العسكرية على الأرض ليست في صالح المالكي والمشروع الأميركي برمته، كما لا يوجد حتى الآن مبرر واحد ومنطقي يفسر الانهيار السريع لجيش المالكي، رغم أنه مجهز ومدرب ومدعوم بشكل واضح من الأمريكان والإيرانيين!! خاصةً أن هذا الانهيار لم يُعالج بتعزيز قوة هذا الجيش بطريقة عسكرية، إنما تم اللعب على الوتر المذهبي، بالحشد الديني لأبناء الطائفة الشيعية من العراق وإيران واليمن، وبتوافق واضح بين المؤسسة السياسية التي يمثلها المالكي، والمؤسسة الدينية التي يمثلها السيستاني بالتعبئة العامة لقتال الإرهابيين السنة!!
من جهة أخرى، فإن خصوم المالكي من ثوار العشائر، أو ضباط صدام، والبعثيين، أو مقاتلي (داعش)، مهما بلغت قوتهم واتفاقهم لا يمكنهم أن يحرروا مدن المثلث السني بهذه السرعة حتى وإن قيل بوجود دعم وتسهيلات من الأهالي، بل إن مقاتلي (داعش) اقتربوا من بغداد مركز حكومة المالكي، بينما يتفرج الأمريكان أصحاب المشروع الأصلي، مكتفين بأنهم يراقبون الوضع.
لهذا فبتقديري أن المشهد العراقي أمسى يحتمل حدوث أحد السيناريوهات الثلاثة، الأول أن ما جرى ويجري هو خطة استدراج لثوار العشائر ومن يدعمهم من ضباط صدام والبعثيين، وذلك من قبل قوات المالكي بتنسيق أميركي إيراني، كي يسهل ضربهم وسحقهم، خاصةً بعد أن تبين أن قوة المناطق السنية تكمن في هؤلاء الثوار، وهذا قد يفضي إلى حرب أهلية تغذيه النزعة الطائفية والسياسة الصفوية. والثاني أن تلك الأحداث العسكرية كشفت بالفعل هشاشة البنية القتالية لقوات جيش المالكي، وأنها لم تمتحن في حرب حقيقية كما يجري الآن، مع وجود فجوة سياسية وأيديولوجية بين هذه القوات والقيادة المتمثلة بالمالكي كما يرى الدكتور والكاتب السياسي خالد الدخيل في صحيفة (الحياة)، وبالتالي جاءت التطورات الميدانية سريعة وطبيعية ومنسجمة مع ظروف الواقع العراقي.
أما السيناريو الثالث وهو الأسوأ، فإن هاجس تقسيم العراق موجود في مضامين المشروع الأميركي بالمنطقة العربية، وقد سبق أن طُرح في السنوات الأولى للاحتلال الأميركي، لكنه لقي معارضة قوية وبالذات من أهل السنة العرب، لذا تتم الآن استدارة لإحياء هذا المشروع، من خلال فرض أحداث معينة تجعل المعارضين يتفقون على التقسيم وبالذات العشائر السنية، بحيث تكون أمام ثلاث خيارات: إما وقف ثورتها والرضوخ للأمر الجاري المتمثل بحكم المالكي، أو المضي فيها إلى أقصى أمد حتى لو أدت إلى حرب أهلية، أو القبول بالتقسيم على أساس طائفي وعرقي، ولأن أهل السنة قد جرّبوا التهميش لسنوات، والتهجير لكثير منهم من بغداد والبصرة، كما تم رفض مطالبهم الحقوقية والطبيعية، التي أعلنوها في ساحات الاعتصام خلال السنتين الماضيتين، واستخدمت القوة ضدهم، فإنهم لن يقبلوا بوقف ثورتهم إلا بحكومة وفاق وطني تستبعد المالكي وإيران من المعادلة السياسية، وهذا يبدو مرفوضاً من الطرف الشيعي، وأما الحرب الأهلية فرغم أن شبحها حاضراً لوجود المتطرفين من الطرفين، إلا أن أهل السنة أعقل من أن ينجروا لذلك بدلالة صبرهم على مظالم المالكي.
وبالتالي سيقوم التدخل الخارجي باستغلال الأحداث الجارية على أساس أن الأحوال قد ساءت بين مكونات الشعب العراقي الرئيسة بالعيش تحت مظلة وطن واحد، بدلالة القتال الدائر منذ أكثر من عام، وذلك بطرح فكرة وقف الثورة الشعبية واكتفاء السنة بتحرير مناطقهم وقيام حكمهم الذاتي، مقابل أن تبقى الحكومة العراقية الشيعية تحكم المناطق الشيعية، وأما الأكراد فهم تلقائياً يعيشون بما يشبه الحكم الذاتي. ومن ثم يكون التمهيد الفعلي للتقسيم.