الإجازةُ من الكتابةِ كتابة؛ فللقراءةِ حظُّها المكثف، وللتأملِ مساحتُه الوارفة، ووسط زحام العام الضاجِّ بالركض تقل القراءةُ ويندر التأمل، وننشغل أو نُشغل فلا تتوافر لنا إمكاناتُ القراءتين الخارجية والداخليةِ لمعرفةِ الآخرِ؛ تالدِه وطريفِه، والذاتِ مورقِها ومجدبها، والبيئةِ الثقافيةِ والمجتمعية تطورِها وتدهورها، والأيام وعدِها ووعيدها،وإذ اعتدنا أن يكون للسياسةِ وأخبارها وحواراتها الجزءُ الأوفرُ من الوقت فإن التوقفَ الاختياريَّ قد ينأى بنا عن توتر المتابعةِ ويمنحُ ضوءًا للمراجعة.
** وربما جاء مفتتحُ القراءةِ المنتظرةِ بحثًا في لغة الاستقطابات العالية التي عبرت بنا على مستوى الأمة والوطن حتى لتكادُ تحصرنا في «معويةٍ» و»ضديةٍ» ألفنا شيئًا منها في حقبة الخمسينيات والستينيات أيام المد القومي وفي الثمانينيات والتسعينيات وقت الموجات الحداثوية والصحوية وظننا الانعتاق منها بعدما استطالت الحروبُ الأممية وتكاثرت الحرابُ الإقليمية في العقد الأول من الألفية غير أن الربيع أو الخريف العربي - لا فرق - أعاد التصنيفَ والتصنيمَ إلى المرمى الخالي ووجدنا أنفسَنا داخل مداراتِ تيهٍ جديدةٍ تدفعُ المحايدين لارتكاب إثمِ التحيز فكأننا بين فريقين متوفزين لا ينفعُ التبرؤُ من كليهما أو حتى التفرج عليهما،وهو ما يدعو الباحثَ نحو تفكيرٍ أعمقَ حول الخُلوص من حديَّة هذه الثنائيةِ المَرَضية.
** صارت الاستقطاباتُ الموضوعَ الأكثر تمثلًا بين ذوي الأقلام كما الكرَةِ بين الأقدامِ وبتنا نُسألُ وبعضُنا يساءَل؛ أإخوانيٌ أم سلفي ، أتنويريٌ أم تقليديٌ، أجهاديٌ أم سلاميٌ، وإذ تعلم أنك لستَ هنا ولا هناك لأنك حرٌ مستقلٌ تمقتُ الحزبيةَ وتنأى عن الحزبيين وتعرف أن الألوان أبيضُ وأسود واليوم ليل ونهار فإن كل شيءٍ حولك يذكرك أنك لم تسجل توقيعَك مع أحد الجانبين، وهذه معضلةٌ تحتاج لحكماءَ يخرجون الجيلَ المتكونَ من أتونها وتأسى لأنهم متورطون داخلها.
** وربما جاءت الإجازةُ لتأمل إيجابيات وسلبيات النأي عن بعض وسائط الإعلام الجديد بعد تجربة سنوات، وقد أجرى دراسةً سريعةً حول المسافة بين المسموح به والمسكوت عنه ووجد مفارقاتٍ عديدةً تحتاج إلى بحثٍ أعمقَ قد يشي بما يحتاج معه التعليم والإعلام والمنبر لإعادةِ تموضعهم وتبديل أساليبهم.
** وقد نتخلص في فترة الاسترخاء من التأجيج القبليِّ والمناطقيِّ والطائفيِّ التي تجاوزت سقفَ المتاح والمباح ولامست الخطوط الحمرَ؛ فعادت مفرداتُ القبيلي والخضيري والحجازي والنجدي والشيعي والسني والتقسيمات المتفرعة داخل كل فئة بما يوحي بالتشظي المخيف؛ فالوطن ليس أدلجةً تعبث بها الأقلام والأفهام والعوام؛ فلماذا وإلى متى وما المخرج؟
** والإجازة مناسبة لإكمال أعمالٍ تأليفيةٍ معلقةٍ؛ فسيرة كرسيٍّ ثقافيٍّ تنتظرُ تفرغًا، وجمع ما تفرق من نصوصٍ يحتاج إلى وقت، وإصداران آخران يمسان الشأن الثقافيَّ العام يلزمُهما كثير من المراجعة، عدا حقِّه على والديه وأولاده وناسِه ونفسه، والظن أنه سيبقى مقصرًا بحق الجميع، وستنتهي الإجازة ولم ينجز شيئًا ذا بال ليعود الركضُ إذا أذن اللهُ بأجلٍ وصحةٍ ومزاج.
** العمر دوار.