عندما يقول الإسلام الحركي السياسي إن الأمة -ويقصد عموم المسلمين- لن تسترد عافيتها ومناعتها إلا بالرجوع إلى أصول العافية والمنعة الأولى، عندئذ يتوجب عليه، على الإسلام الحركي بأشكاله كافة، تقديم تفصيل مقنع عن أسباب عافية ومنعة تلك البدايات الأولى.
عناصر القوة الأولى تلخصت في الاتفاق على دين واحد لا مذاهب فيه، وعلى نسق تعبدي وشرعي فقهي لا اختلاف عليه، وعلى هدف نهائي واحد هو نشر الدين بالدعوة الحسنة أولاً، ثم بالجهاد الحربي عند تعذر الاستجابة. ماذا نحصل عليه عندما نستعرض ما حصل عبر التاريخ لكل واحد من هذه العناصر؟ أما الدين الواحد كتطبيق عملي، فلم يعد موجوداً إلا في النصوص. المذاهب المسيسة فرقته وأدخلته في حالة دفاع مستديمة عن نفسه ضد بعضه البعض، واستبدلت عناصر الإنهاك والاستنزاف من داخله بعنصر القوة الجامعة الأول.
وأما النسق التعبدي، وكذلك الشرعي الفقهي المحدد لعلاقة المسلم بربه وبالمجتمع الذي يعيش فيه فهو كما نرى ونعاني. حتى دخول شهر الصيام وخروجه، وأنصبة الزكوات وقنوات صرفها، وحقوق المسلم الأساسية على دولته ومجتمعه وواجباته تجاههما، فقد أصبحت كلها عوامل براءة وافتراق، واختلفت تطبيقاتها من عصر إلى عصر ومن دولة إلى دولة ومن مكان إلى آخر.
ما أن يستشهد واحد بابن حنبل أو ابن تيمية في العراق، أو بمالك في نجد، أو بالشافعي في صعدة اليمن، إلا وينتفض السامعون ويتحول الأمر إلى تلاسن ثم إلى قتال. سقط عنصر من عناصر القوة الأولى في النسق التعبدي والشرعي الفقهي الموحد وتفرق إلى شيع وتحزبات لا تستطيع حتى التعايش اليومي مع بعضها.
يبقى العنصر المادي من عناصر القوة الأولى، وهو الإجماع التأسيسي على نشر الإسلام بالدعوة الحسنة أولاً، فإن لم تكن كافية فبالجهاد الحربي. عند هذه الجزئية تحديداً يجب على الإسلام الحركي أن يتوقف عن الصراخ والتأجيج والتحريض ليعيد النظر بعمق في المتوفر على الساحة من القوة المادية، وإلى أين أوصلنا استعمالها حسب أدبياته في الداخل والخارج، وأن يتفحص أنواع الشياطين أو الملائكة التي استدعاها لنا من القماقم.
التشريح المادي العلمي لهذه الحركات الجهادية التي نبتت على تربة الإسلام الحركي السياسي يوضح أنها كلها حركات سرية تعتمد الإرهاب والبطش بمن يقع تحت سيطرتها في الداخل قبل الخارج، وتتعامل في الخفاء مع أجهزة الاستخبارات العالمية، وتستبيح من الوسائل والممارسات ما لا يستقيم على الإطلاق مع شروط الجهاد الأولى في الإسلام. إنها حركات تقتل حتى فقهاءها المنخدعين بشعاراتها عند أول بادرة اعتراض منهم على ممارساتها، فليس لديها من الفقه الشرعي سوى أن الضرورة تبيح المحرمات، وقد نشرت من الدمار والتهجير واستباحة الأعراض في ديار أهلها ما لم يستطع أي جيش غزا ديار الإسلام من قبل، بما في ذلك المغول والتتر.
السؤال هو لماذا يغض الإسلام الحركي النظر عن أن هذه الحركات التي نبتت من أدبياته تستهدف دائماً المؤسسات الخدمية العامة والطرق والجسور وأماكن العبادة والأمن الجماهيري في التجمعات والأسواق المفتوحة، لخلق جو من التذمر العام والفوضى كذريعة شيطانية للتثوير على الحكومات والدول؟
المؤسف أن الساحة السعودية والخليجية تقع أيضاً ضمن ميادين الإسلام الحركي السياسي، وهو من أكثرها خطورة على مكوناتها الاجتماعية واستقرارها، ولكن من يسمع ويعي؟!
ما نحتاجه هو التطبيق التنويري العلمي في الإسلام، المبصر بالحقوق والواجبات، والحاث على التعمير والتعايش والتصنيع والاستغناء عن اقتصاد المقايضة الريعية لمجرد البقاء على قيد الحياة.