تصرُّف طالب البعثة السعودي الذي حطّم التماثيل في المعابد اليابانية، يتطلّب من المجتمع الذي ابتعثه بهذه القناعات وقفة جدية مع النفس. أفترض أنّ ذلك الطالب كان سوي العقل حسب المواصفات التي قولبت عقله وعاطفته قبل ابتعاثه، وحسب متطلّبات وزارة التعليم العالي السعودية التي أرسلته لطلب العلم في اليابان، أي إلى ما وراء الصين. طالبنا المبتعث ذو الثلاثين عاما ً طبقت عليه المواصفات والمقاييس السعودية في الملكات العقلية والثقافية والأخلاقية والوطنية، ثم أرسل إلى أكثر الدول انضباطا ً وتعاملا ً مع العقل والنظام والقدرات البشرية. افترض أنه ذهب فعلا ً إلى طلب العلم، لكن بقعة ما في دماغه كانت تحمل سلفا ً البرنامج المحلي المتعالي والكاره للمختلف، حتى لو فتح هذا المختلف الآخر له أبواب طلب العلم في مؤسساته وبين أبنائه.
قد لا يكون هذا الشطط في التصرف جزءا ً مقصودا ً مما تعلّمه ذلك الطالب في الدروس الشرعية عن الولاء والبراء، لكنها إحدى مخرجاته المحتملة. البرمجة المحتملة التي كانت قابعة ً في دماغه جعلته يتسلل في جنح الظلام إلى داخل معابد يابانية آمنة وغير محروسة، ليعلن براءته الدينية بطريقته الخاصة.
لو أنّ الطالب جاهر شهارا ً نهارا ً باستنكاره لوجود التماثيل في المعابد اليابانية لكونه يرى فيها أصناما ً يحرم التعبُّد إليها، لأصبح الأمر أسهل تبريرا ً بواحد من احتمالين. الاحتمال الأول أنّ الطالب طبّق في النهار وليس تحت ستر الظلام قناعاته الدينية، بصرف النظر عن العواقب المحتملة، أي أنه أراد أن يبرأ لدينه علنا ً من منكر لا يستطيع تحمُّله. الاحتمال الثاني هو أنّ الطالب كان يعاني من حالة نفسية جعلته مشوشا ً لا يدرك نتائج تصرفه، لكن هذا احتمال ضعيف. تصرفات المريض النفسي لا تخضع لضوابط التخفي وحبس الانفعال وتأجيله حتى يحل الظلام، لكي يستتر به عن العيون والرصد الجنائي وإمكانيات العثور على الفاعل.
لا أعتقد أنّ الطالب السعودي كان يعاني من نقص في التقدير والحسابات، ولا أراه اقترف ذنبا ً شخصيا ً يخصه لوحده. كان فقط أشجع من كثيرين غيره غرست في أدمغتهم نفس البرامج عن كره المختلف، والحث على إلحاق الأذى به للتقرُّب بذلك إلى الله.
الفرق السببي هنا لن يكون كبيرا ً بين موقف هذا الطالب السعودي تجاه المعابد اليابانية، وبين الإرهابيين الذين يمارسون التدمير والاستحلال باسم الجهاد الشرعي داخل ديارهم وبين أهلهم. كلا الطرفين، الطالب والإرهابي يطبقان ما لقّنه لهما طرف ثالث خفي أنتجته وطوّرته بيئتنا الاجتماعية والتربوية والتعليمية المحلية، ومنحته حصانة لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها ومحاولة التحقق من شرعيتها وأهدافها.
شرعنة البرمجة الاجتماعية على كره المختلف والدعاء عليه ومهادنته إلى أن تسمح الظروف بالانقضاض، هذه حقيقة لابد للمجتمع السعودي، بدءا ً بمراكز المسؤوليات العليا من الاعتراف بها، ولم يبدأ التعامل معها بما توجبه المصلحة الوطنية والتعايش الواقعي مع العالم، سوى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
مع ذلك لم يتم حتى الآن التعامل بنجاح مع هذه البرمجة بنفس الطريقة التي تم بها التعامل الأمني مع نتائجها. المنفذ الميداني يتم تضييق الخناق عليه، أما نافخ البوق فيبقى بمأمن من المساءلة.
الكثير من الدراسات المقارنة بين نجاح الإمبراطور الميجي في تطوير اليابان، وفشل السلطان محمد علي في تطوير مصر، ترد السبب الرئيسي إلى شرعنة هذه البرمجة ضد التجديد القادم من الخارج، مهما كانت الحاجة ماسة إليه.
كلاهما، مصر واليابان بدأتا محاولة النهضة العلمية والصناعية في نفس الوقت. مصر كانت أكثر تقدما ً من اليابان في البداية وأكثر قربا ً من مصادر الثورة العلمية والصناعية، ومع ذلك فشلت. البحث في الموضوع ربما يحتاج إلى مقال قادم.