لم يعد أمام أي دولة متأخرة علميا ً وتقنيا، بما في ذلك الدول الريعية، سوى الدخول إلى العلم النظري والتطبيقي من بوابته الرئيسية، أو التفتت والنهاية بسبب تكاثر السكان ونضوب الثروات وشح الموارد.
التلصص على العلم من خلف الجدران القديمة يعجل بالنهاية.
من المؤكد تكرر لحظات تاريخية في حياة كل الشعوب تتطلب إجبار الشعوب على السير إلى الأمام وقسرها على مافيه ضمانات أفضل لمستقبل أجيالها.
المؤسف أنه لا يمكن حصول إجماع في أي مجتمع على قبول التغيير النوعي والحركة إلى الأمام بدون مقاومة. التعميم في ذلك يشمل التعامل مع المذاهب والعصبيات وكل أنواع الخلل القضائي والتعليمي والمهني، وصولا ً إلى منع التدخل الاجتهادي في الحريات الشخصية المكفولة، بدون مساءلة قانونية عادلة.
تاريخ التقدم البشري بكامله مسلسل طويل من الصراعات الاجتماعية البينية لإحداث تغيير ما، وكل ما كان التغيير يهدف إلى نقلة نوعية إلى الأمام، كانت المقاومة أشد والضحايا أكثر.
من المدهش بالفعل عند استعراض تواريخ الأمم، ملاحظة السهولة النسبية لحصول الانتقال الاجتماعي إلى الخلف، أي نحو تراث الآباء والأجداد الأموات.
لكن الانتقال إلى الأمام، بمعنى محاولات التحرك نحو تحسين الظروف المعيشية والتوافق الاجتماعي والتطوير التقني كانت هي التي تواجه بأشرس أنواع الرفض والمقاومة.
تناول الأمثلة من أحداث القرون الثلاثة الأخيرة من التاريخ يكفي لتوضيح الصورة. انتقال الروس من حكم الإقنان والإقطاع والكهنوت الكنسي والهزائم المتكررة أمام دول الجوار الأصغر حجما ً والأقل امكانيات، إلى عصر التعليم الحديث والثورة الصناعية وعلوم الفضاء كلف الروس ملايين القتلى، غير الخسائر المادية. الآن أصبحت روسيا هي القوة العظمى الثانية في العالم.
ما بين القرن السادس عشر والعشرين مرت كل دول أوروبا بكل الصراعات الاجتماعية من أجل المستقبل، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين. كفاح القائد الماليزي الكبير مهاتير محمد ضد التيار الملاوي التراثي السائد في بلاده يقدم واحدا ً من أوضح الأمثلة على عدم جدوى المهادنة الاجتماعية للتحرك نحو الأمام.
كل هذه الأمثلة السابقة بما فيها التجربة الماليزية تقدم أوضح الأدلة على بطلان أقوى حجج الممانعين للتطوير على اختلاف تبريراتهم، أو بالأحرى مصالحهم التي يعتقدون أن الانفتاح على المستقبل يهددها.
التخويف والترهيب من ضياع الهوية، من التغريب أو التشريق، من فقدان الترابط الإجتماعي وانهيار الأخلاق، من إضعاف العقائد الدينية، هذه هي الجزئيات التي يدعيها الممانعون للتغيير. الجامع الموحد لكل التبريرات كان يتضح تكرارا ً بأنه الخوف من فقدان الامتيازات الاجتماعية، أي الخوف من الاستلاب المادي وليس من الاستلاب العقدي أو الوطني أو المعنوي.
اليابان وروسيا وأمريكا والصين وماليزيا وكل الشعوب الأوروبية بما فيها تركيا لم تفقد من هوياتها الأساسية شيئا ً يذكر، بل أصبحت أكثر قوة وأشد تمسكا ً بها وأقدر على الدفاع عنها.
على النقيض من ذلك كل محاولات التغيير التي حاولت التوفيق بين الآراء المتناقضة، وأن تمسك العصى من الوسط لم تنجح وبقيت في نفس المكان. حاولوا تذكر ولو مجتمع واحد نجح بالتوافق الاجتماعي في إحداث النقلة العلمية الإبداعية وتأمين المستقبل، بدون محاولات تهييج غوغائي للجماهير واستعمالهم كأدوات ضغط ضد مصالحهم في تأمين مستقبل أجيالهم القادمة.
نقبت في الذاكرة ولم أعثر على أي نموذج في ذلك.
الخلاصة هي: الأمم المتخلفة علميا ً ومعيشيا ً وتعايشيا ً تحتاج في فتراتها التاريخية الحرجة إلى قيادة نخبوية تجبرها على التحرك إلى الأمام قبل فوات الأوان.