كان تطور الألقاب الدينية عبر القرون في تاريخ المسلمين ظاهرة تستحق الرصد، وكانت البدايات خالية من الألقاب والقدسية الدينية، لكنها تطورت إلى أن وصلت إلى إضافة ما يدل على التبجيل والرفعة والتفضيل للواعظين والفقهاء والقضاة عن بقية الناس، فيقال على سبيل المثال فضيلة الشيخ والعلامة وصاحب السماحة والمفتي الأكبر..
بينما كان صدر الإسلام خالياً من تلك الظواهر، وكان المجتهد الديني يتميز بالتواضع والاكتفاء باسمه المجرد عند تقديمه أو النقل عنه، وفي وقت لاحق استخدمت صفات مثل الفقيه والإمام وذلك لتميز المجتهدين في العلم الديني عن غيرهم، وكان يقتصر ذلك على الأئمة المعروفين، لكن الأمور تبدلت في القرن الرابع والخامس الهجري، فدخلت صفة شيخ الإسلام لإضفاء مزيد من المرجعية الدينية عند البعض عن غيرهم.
ويقال: إن أقدم من أطلق عليه هذا اللقب هو عبد الله بن محمد بن علي الأنصاري الهروي، المتوفَّى سنة 481 هـ. وتذكر كتب التاريخ أن نظام الملك وزير السلطان السلجوقي مُلكشاه طلب من فخر الدولة وزير الخليفة المقتدي العباسي أن يمنح الخليفة الإمام الهروي لقب شيخ الإسلام، فوافق الخليفة، وأرسل في سنة 474 هـ إلى الإمام الهروي الخلعة باسم «شيخ الإسلام وشيخ الشيوخ والحكماء، أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري».
بينما يرى آخرون أن أحمد بن عبدالله بن يونس اليربوعي م سنة 227 هـ، كان أول من لقب بشيخ الإسلام، وذلك عندما قال الإمام أحمد بن حنبل لرجل سأله: عمن أكتب؟ قال: اخرج إلى أحمد بن يونس اليربوعي، فإنه شيخ الإسلام. ا هـ، وفي القرن السابع والثامن غلب هذا اللقب على ابن تيمية، وأما معنى كلمة شيخ الإسلام فقد اتفقت الآراء أن شيخ الإسلام من شاب رأسه في الإسلام، ولم يمر بفترة صبوة ولا شرخ شباب من السفه والطيش.
ثم تحول لقب شيخ الإسلام في الدولة العثمانية إلى مؤسسة تابعة للدولة، وكان ذلك في عهد السلطان محمد الفاتح، وتعتبر تلك نقلة تاريخية في إدخال العلم الشرعي ضمن تنظيم مدني داخل إطار الدولة، ويحتكم إلى أوامر السلطان، ويُذكر أن الأئمة الأربعة رفضوا المناصب في زمن الأمويين والعباسيين، وفضلوا العمل كمستقلين في اجتهاداتهم الدينية، وقد وصل ذلك إلى المحنة والاضطهاد، كما حدث بين الإمام أبوحنيفة والخليفة المنصور.
في عصر الدولة الحديث كانت دار الإفتاء مقراً للعلماء المجتهدين، وارتبط هذا المنصب بعلماء معدودين، واكتسبوا الفضل في لقب فضيلة الشيخ، وكان لهم تأثير في الحياة العامة، وعُرف عنهم تدينهم ومحافظتهم الشديدة، لكنهم كانوا حريصين على مصالح البلاد، ويحظون بمكانة رفيعة بين الناس، جعلت منهم المرجعية الشرعية في البلاد.
في بداية الثمانينيات الميلادية كانت بدايات شيوع اللقب، بعد تكثيف التعليم الديني المتخصص، ثم خروج جامعات دينية متخصصة في تدريس العلوم الشرعية، وقد أثر ذلك في انتشار اللقب واتساع دائرته، ليصبح لقب « فضيلة الشيخ «، حقا مكتسبا لخريجي الكليات الشرعية، وإن لم يشب شعر رأسه في الإسلام، وعادة يناله كل من يعمل في المؤسسات الشرعية كالقضاء والهيئة.
وصلت زيادة أعداد الخريجين إلى أن تكون ظاهرة، ولم تستوعب المؤسسات الشرعية نسبة غير قليلة، وبالتالي لم يعد لقب فضيلة الشيخ محصوراً على الذين يعملون في مؤسسات الدولة، والتحق بعضهم بالعمل التطوعي الدعوي والخيري، وبعضهم شارك تطوعاً في تطبيق تعاليم الهيئة، وآخرون اكتسبوا مكانة في تفسير الأحلام، ونالت الجماعات المتطرفة حصتها منهم، وصار لها هيئتها الشرعية التي تملك حق تشريع أعمال العنف والتفجير..
خلاصة الأمر أن طبقة « فضيلة الشيخ» أصبحت واسعة وتشكل جماعات مؤثرة في الدولة وخارجها، ويحظى بعضها بالتفضيل والتبجيل بين الناس، ووصلت درجات تأثيرها إلى الإعلام، واستخدم اللقب التفضيلي في البيانات التي تعترض على بعض القرارات الإدارية، وعادة تشمل مئات أسماء المواطنين، و لكن دائماً ما يسبق تلك الأسماء لقب « فضيلة الشيخ» لإضفاء الشرعية على موقعيها، وإعطائها حق الاعتراض، لكن الملاحظ أن شيوع اللقب أدى إلى فقدانه بعضا من هيبته وقدسيته.