الملاحظ أنّ التجمعات الإسلامية المهاجرة إلى الغرب تتمتع بضمانات حقوقية في مجتمعاتها الجديدة، أفضل منها في مجتمعاتها الإسلامية القديمة. لهذه الأسباب يمكن أن نعثر على المسلم الصادق في تلك المجتمعات بسهولة أكبر من العثور عليه في المجتمعات الإسلامية. المسلم هناك غير مكره في عقيدته وضميره كمثال على إحدى الجزئيات الحقوقية الأساسية التي يضمنها القانون. العثور على المسلم الصادق في المجتمعات الإسلامية جغرافياً يستدل عليه بالمظهر الخارجي فقط، وهذا الوضع لوحده قد يكون كافياً لتزكيته أمام كل السلطات والطبقات الاجتماعية. بما أنّ المماطلة أو الضبابية في التطبيق الحقوقي تصنع أفضل مناخ للفساد بأنواعه وللفوضى الأخلاقية حتى في استعمال الطريق واستخدام المرافق العامة، لذلك نجد أنّ أسوأ أنواع الفساد وأنكر أنواع الفوضى وسوء التصرف حتى أمام دور العبادة والدوائر الحكومية والمرافق العامة، تتواجد بكثافة حيث تتواجد هذه الضبابية والمماطلة الحقوقية.
لا يوجد في المجتمعات الإسلامية الحالية، بل ومنذ قرون، تعريف توافقي جامع للحريات الإنسانية الأساسية. السبب الأهم لذلك هو تضارب المصالح بين المكوّنات المختلفة للمجتمعات نفسها وداخل كل مجتمع مستقل بذاته أيضاً. ظاهرة تعدد المذاهب والانتماءات وتجذرها العابر للتاريخ، ما هي سوى تعبيرات تقاسمية للمصالح، لم تخضع للتشريع الإلهي الأصلي الجامع. لهذا صار المتوفر هو التعريف الاجتهادي لكل طرف (للحريات الإنسانية الأساسية) بناءً على ما يراه يصب في مصالحه واستمرارها.
قبل الاستمرار في محاولة النظر في هذه المسألة، لابد من طرح ثلاثة أسئلة أرى أنها على غاية الأهمية: في أي المجتمعات العالمية الحالية يوجد أقل مقدار من الحريات الأساسية، وفي أي المجتمعات يوجد أكبر انتهاك لهذه الحريات، وفي أي المجتمعات يوجد أكبر قدر من الفوضى وعدم الالتزام بالأنظمة المكتوبة وانتهاك الحقوق الأساسية للمكوّنات الأضعف داخل هذه المجتمعات؟.
لا أظن أنّ الأجوبة صعبة، بل يمكن اختصارها في جواب واحد، إنها في المجتمعات المتخلّفة إدارياً وعلمياً وقضائيا.
ما هي أكثر المجتمعات الحالية تخلفاً في الإدارة والعلم والقضاء؟، إنها المجتمعات الأسوأ أوضاعاً في ضمان الحريات الإنسانية الأساسية . ألق نظرة على خارطة العالم وسوف تجد أن المجتمعات الإسلامية تقع ضمن هذه الجغرافيا، وربما في القلب منها.
إذا، إن سلمنا بهذه الافتراضات نحصل على متلازمة ترابطية، فلا يحصل تطور إداري وعلمي وقضائي بدون توفر الحريات الإنسانية الأساسية، ولا يمكن ضمان هذه الحريات قبل توفر درجة كافية من التطور الإداري والعلمي والقضائي. هنا ربما يصبح ضرورياً وضع التطور القضائي قبل الإداري والعلمي، لأنه هو الضامن الأول والأساس لكل أنواع التطور.
من قبيل محاولات التمطيط في الإجابات حول تعريف الحريات الأساسية تأتي المطالبة أولا بتحديد متى تبدأ وأين تنتهي، وما هي الحدود اللازمة لعدم التعدي على حقوق الآخرين وإيذاء مشاعرهم، إلى آخر المطولات والمدونات الفقهية والفلسفية التي تملأ الرفوف منذ قرون.
عدم الوصول إلى توافق نهائي حول ذلك يعبر بحد ذاته عن الفشل في التوصل إلى اتفاق تعايش بضمانة الدساتير والقوانين والسلطات التنفيذية، رغم كل القرون التي مضت. الواضح أن الجدل القديم المتجدد كان دائماً يصب عن قصد في قنوات التمييع والتأجيل، لمبررات مادية، ليست المصلحة الاجتماعية الشاملة فيها على رأس الأولويات.
استمرار الانحدار العلمي والإداري والحقوقي، رغم المطولات والمدونات الجدلية هو التجسيد المادي الواضح للفشل على كل المستويات.
العالم الحاضر الذي نعيش فيه ومعه وبه أيضاً، لم يعد محكوماً بإمكانيات التصرف القديمة، حين كانت التجمعات البشرية تدار بمكوّناتها وإمكانياتها الذاتية في معازل مستقلة عن العوالم الأخرى.
إذاً، بناءً على الأوضاع الجديدة الموجبة للتعايش البشري، كيف يمكن الوصول إلى تعريف جامع وملزم للحريات الإنسانية الأساسية.
العموميات المتفق عليها كأسس يجب الالتزام بها في العالم الجديد هي عدم إكراه الإنسان على موقف أو تصرف أو رأي ضد معتقده وضميره، وعدم التمييز الحقوقي المادي والمعنوي على أساس الجنس أو الدين أو المذهب، وضمان العدالة القضائية للجميع، وضمان التساوي في الفرص الأولى لاستثمار المواهب والقدرات، وضمان سلامة النفس والجسد والعرض والمال من التعديات، وحماية الكرامة البشرية من الانتقاص والإذلال.
التطبيق المثالي الكامل لهذه المبادئ العامة غير ممكن، ولكن علينا أن نتساءل، في أي المجتمعات الحالية تحقق الاقتراب منها، وأين يقع الابتعاد عنها، وأحياناً الافتراق الكامل؟.
الموضوع متشعب وواسع، ولكن متلازمة نقص الحريات الأساسية مع سوء الأداء الإداري والعلمي والقضائي، وانتشارها في المجتمعات العربية خصوصاً والإسلامية عموماً، تجعل التساؤل والبحث العلمي المجرّد على غاية الأهمية للمستقبل.