كنت أظن واهماً أن مصطلح الاستشراق قد اندثر كتسمية لمركز أبحاث علمي رصين، بسبب تبرؤ الأقسام الأكاديمية الغربية من الحمولة السلبية التي اسبغها الاستعمار عليه، وأصبح في أحسن أحواله مشبوهاً، وتم استبداله بتعبيرات مختلفة كالدراسات الآسيوية أو الشرقية..
هل لا يزال هناك معهد جاد علمياً يتسمى بالاستشراق؟ هذا السؤال هو أول ما تبادر في ذهني بعدما وصلتني الدعوة الكريمة من رئيس تحرير صحيفة الجزيرة الأستاذ خالد المالك الموجهة لعدد من كتاب وكاتبات الصحيفة للمشاركة في ندوة حوارية مع وفد من معهد الاستشراق بجامعة فيينا الذي تستضيفه وزارة التعليم العالي.
هذا السؤال هو أول ما طرحته في مشاركتي للوفد، على أساس أن الاستشراق كمصطلح قد اندثر بما يحتويه من بعد استعماري وتحيز جغرافي وسياسي وحضاري، لأننا بعد الحرب العالمية الثانية دخلنا في فترة ما بعد الاستعمار، وما بعد كتاب إدوارد سعيد «الاستشراق» الذي فكك وفتك بهذا المصطلح فتكاً موضوعياً قاسياً مما أدى إلى أن تتجنب استخدامه كثير من المؤسسات الغربية وتحوله إلى مسميات أخرى، فهل يوجد في النمسا المسالمة الوديعة مثل هذا التوجه؟
أجاب مدير معهد الاستشراق بفيينا بأن هذا الأمر سبق أن طُرح لديهم عبر نقاشات مستفيضة لتغيير مصطلح الاستشراق، ولا تزال الحوارات مستمرة وأخذت منهم وقتاً طويلاً، وطرحت عدة اقتراحات كمسمى دراسات الشرق الأوسط أو الدراسات العربية، ولكنهم توصلوا إلى الإبقاء على الاسم الحالي وهو معهد الاستشراق لأن المعهد لديه تاريخ طويل منذ القرن الخامس عشر بهذا الاسم ومن الصعوبة تقبل تغييره بالوقت الحاضر؛ رغم أن لديهم إدراك بأن هذا المصطلح مثار للنقاش بالعالم كله، لكن النمسا لم تكن دولة استعمارية والاستشراق فيها كان ذا دافع ثقافي، وليس استعمارياً كفرنسا وبريطانيا. كما أوضح لاحقاً بأن الوظيفة الأساسية حالياً للمعهد هي تعليم اللغة العربية، إضافة لعمل الدراسات والأبحاث.
إذن، مصطلح الاستشراق لا يزال باقياً.. حسناً، لا مشكلة أو كما يقول اللغويون العرب لا مشاحة في المصطلح.. لكن ماذا بقي منه؟ في الأصل هو مصطلح يستخدم من قبل كُتَّاب ومؤرخي الفن والأدب والثقافة والدراسات الأكاديمية بالغرب لتصوير جوانب من ثقافات الشرق خاصة ما أطلقوا عليه «الشرق الأوسط». أيضاً، لا مشكلة لولا أن مفهوم المصطلح تأسس على أن هناك شيئاً خاصاً جداً في التفكير والسلوك لدى أولئك الذين يعيشون في الشرق، وكأنهم بشر من جنس بدائي أو أدنى من الغرب جينياً.
غالبية الرأي العام العربي تجد بالاستشراق دوافع متنوعة أغلبها غير بريئة ولا محايدة مثل دوافع دينية تبشيرية أو جاسوسية استعمارية.. رغم إدراكهم وجود دوافع محايدة كالتجاري أو الدبلوماسي.. وفي أحيان نادرة له دوافع علمية جادة وتعليمية لغوية.. ومع الأخذ بالاعتبار الفرق بين الاستشراق في الدول الاستعمارية كبريطانيا وفرنسا وبين الدول غير الاستعمارية كالنمسا.. والأخذ بالاعتبار أن الاستشراق أفاد الباحثين العرب في اكتشاف أدوات تحليل ومناهج تفكير جديدة.
وإذا كانت هذه النظرة الاحتجاجية واضحة فإنها كأغلب الانتقادات العربية تجاه الاستشراق تتحدث مع نفسها -كالعادة- وليس مع الغرب، مما لا يتيح الفرص الجيدة للتحاور معه حول مفاهيمه التي تعنينا، حتى نُشر في أمريكا كتاب «الاستشراق» للمفكر الأمريكي ذي الأصول الفلسطينية إدوارد سعيد عام 1978. قبيل هذا الكتاب بدأت نظرة الغرب للاستشراق بالتغير التدريجي البطيء بعد أفول الاستعمار، لكن هذا التغير انفجر بعد ظهور الكتاب الذي يرى أن الخطاب الأكاديمي الغربي في كثير من الحالات استخدم مصطلح «الاستشراق» للإشارة إلى التأييد العام للموقف الغربي نحو مجتمعات شرق آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مؤطراً هذه المجتمعات كحالة سكونية ثابتة وغير متطورة، يقابلها المجتمع الغربي: متطور وعقلاني ومرن ومتفوق.
يرى إدوارد سعيد أن الغرب غالباً يستخدم مصطلح الاستشراق لوصف ما انتشر في التقليد الغربي، سواء الأكاديمي أو الفني، من تفسيرات خارجية متحيزة تجاه الشرق، تشكلت من خلال المواقف الإمبريالية الأوروبية في القرنين 18 و 19؛ ومعها أيضاً بعض الدراسات الحديثة بالقرن العشرين من الباحثين الغربيين، ولا سيما برنارد لويس. وقد اعتمد مفهوم سعيد للاستشراق على توسيع مفهوم غرامشي عن الهيمنة الثقافية ومفهوم ميشال فوكو عن الخطاب وعلاقة المعرفة بالسلطة والنفوذ.
الكتاب كان له تأثير هائل ومثير للجدل حتى يومنا هذا، مما أدى إلى إعادة تعريف مصطلح الاستشراق على مستوى الغرب، وتزايد ظهور أبحاث غربية تسلك مسلكه وتتوسع فيه كنموذج تفكير وأدوات تحليل. بل هناك من يرى «أن دراسات الشرق الأوسط بأمريكا اتخذت نموذج إدوارد سعيد في دراساته لما بعد الاستعمار» (صحيفة ديلي ستار، 2003). ولا تجد أي دراسة عن هذا المصطلح لا تقف عند كتاب سعيد كمحطة رئيسية غيرت مفهومه.
لم يكن هذا الكتاب محكماً موضوعياً ومنطقياً فقط بل إن توقيته كان مناسباً وناضجاً ليصبح من النصوص التأسيسية لحقبة ما بعد الاستعمار، وما أطلق عليه دراسات ما بعد الاستعمار، أو ما بعد الاستشراق في الدراسات المتخصصة عن المجتمعات الشرقية. وهذا، بالمناسبة، يوضح بان للتوقيت المناسب نفس أهمية الفكرة على منطق المقولة المشهورة لفكتور هوجو « لا تستطيع جيوش العالم أن توقف فكرة جاءت بوقتها».. فما الذي بقي من الاستشراق؟
التوقيت الحالي هو للعولمة حيث تداخلت الثقافات بين المجتمعات وتداخلت المصالح بين الدول.. الاقتصاد العالمي يندمج تدريجياً عبر الشركات متعددة القومية وعبر مؤسسات دولية عالمية.. التطور التكنولوجي في الاتصال والمواصلات يختصر المسافات ويدمج الثقافات.. الإنترنت يقود هذا الاندماج كما يقود التجزئة في عملية جدلية متناقضة.. فهل بقي ثمة «استشراق»؟
سواء بقي المصطلح أم اندثر، فإن بقاياه العنصرية لا تزال ماثلة في واقعنا المعاصر من خلال بقايا الصورة النمطية في الغرب عن الشرق وخاصة العالم الإسلامي والعربي، والتي نجدها في كافة المجالات من السياسية إلى الأفلام السينمائية، وحتى أفلام الكارتون.. لكنه يضمحل مع مرور الوقت، ولا يبدو أن ستبقى له باقية، فالبشر هم البشر في الشرق والغرب والتفرقة بينهما وكأنهما جنسان مختلفان هي من خيالات الاستشراق.