أكتب عن تاريخ ما أهمله التاريخ

نالت مدينة الطائف عبر عصورها المختلفة، ما لم تنله مدينة أخرى في الجزيرة العربية - خلا مكة المكرمة والمدينة المنورة - من عناية واهتمام الدارسين والباحثين، وبرز هذا الاهتمام أكثر؛ عند الأدباء، والشعراء، والملحنين، والمغنين. فقد وصفها أدباء متقدمون ومتأخرون، بأوصاف الجمال والفتنة، وأطلقوا عليها اسم (الطائف المأنوس) و(الطائف المأمون)، نظراً لما كانت عليه من بساتين وحدائق وأعناب وفواكه شتّى، إلى جانب هوائها العليل، وتنوع طبيعتها الجغرافية، واعتدال مناخها، ولهذا اتخذها علية القوم منذ العصر الجاهلي؛ مصيفاً ومنتجعاً لهم.

هذه البيئة الطبيعية الجذابة للطائف، هي التي استمطرت أشعار الشعراء، واستحقت غناء المغنين، فمن أجلها كُتبت مئات القصائد الشعرية، ولأجلها كانت مئات الألحان والأغاني، التي تمجد طبيعتها، وتبجّل حياتها، وتصور أجمل وأسعد علاقة بين الإنسان والمكان والزمان.

مثّلت الطائف من بين جاراتها الحجازيات- مكة المكرمة وجدة والمدينة المنورة- أفضل بيئة أدبية فنية على مدى عقود طويلة، فقد كانت تمتاز بانفتاح ثقافي لا نظير له، وتتفرد بتنوع اجتماعي واسع، هذا الانفتاح؛ وهذا التنوع الذي كانت عليه الطائف إلى ما قبل أربعين سنة، أعطاها ميزة البروز الفني الذي لم يكن لغيرها في وقتها، فقد كان بها في تلك الفترة حتى سنة 1975م؛ أكثر من 15 دار سينما، وكان بها عشرات الحدائق والبساتين المخصصة للحفلات الفنية والسهرات الغنائية، في بساتين المثناة، وفي قروى والقيم وشهار والسلامة وغيرها.

انطلاقاً من هذه الحفلات التي كان يخصص جزء كبير منها للنساء، عرف الناس عديد الأصوات الغنائية التي اشتهرت أو ظهرت من الطائف، مثل الفنان الموسيقار طارق عبدالحكيم رحمه الله، الذي أسس في الطائف مدرسة موسيقى الجيش، لكنه أسس بفنه المتميز، ولكافة الفنانين في عصره ومن بعده، مدرسة فنية خاصة، تتلمذ عليها موسيقيون وفنانون كثر جايلوه أو جاءوا من بعده.

عرف الناس من الطائف أشهر فناني المملكة.. عرفوا قديماً الشريف هاشم، وعرفوا كذلك طلال مداح، ومحمد عبده، وعبدالله محمد، وعبدالله مرشدي، ومحمد حلواني، وعلي عبدالكريم، وغازي علي، وفوزي محسون، وإسماعيل التركي، وأبا حصة، وكردوس، وأبو غليون، ومبروك القريني، ومحمود خان، ويوسف محمد، وداود خان، وأحمد بن ردهان، وأحمد باكلكا، وأسعد حربي، ومحمود عشي، وسليمان وعبدالله سحرة، وعبدالرحمن مؤذن، وحيدر فكري، ومسفر القثامي، وحسن جاوا، وحسن لبني، وتوحة، وعتاب، وابتسام لطفي، وكرامة، ولطيفة المغربية، والعدنية، وسمر دينا، ثم من بعد هؤلاء جاء حسن اسكندراني، وسمير الشامي، ومحمد السراج، ومحمد بصفر، وعدد آخر لست بصدد حصر أسمائهم في مقدمة كهذه.. وهذا قليل من كثير ممن هم من أبناء وبنات الطائف، أو من أبناء مكة والمدينة وجدة والرياض، لكنهم غنوا بالطائف، وتغنوا بالطائف، وانطلق بعضهم من حفلاته الشهيرة في الستينيات وأوائل السبعينيات الميلادية من القرن الفارط.

عرفت الطائف الغناء بشموليته الشعبي والطربي منذ أزمنة بعيدة ولا شك، في قرون كان الحجاز بمدنه الأربع، حاضناً لهذه الفنون، وما زال الطائف يعرف من الفنون الشعبية: (المجرور، والقصيمي، والمجالسي، والحدري، وحيوما، ويله يله، والسامري، والمراد، والردح)، وخلاف ذلك. ويعرف كذلك الفنون الطربية، التي تؤدي بالعود ثم بالآلات الموسيقية المختلفة، ومن فناني الطائف القدامى، مسعود بن عبدالمحسن بن حريب، ظهر هذا الفنان في القرن الحادي عشر الميلادي، وظهر من بعده الفنان الشريف هاشم.

وفي هذا الكتاب: (أغاني الطائف المأنوس)، حرصت على توثيق الجانب الذي لم يتطرق إليه أحد من قبل، ألا وهو فنون الطائف وأغانيه، خاصة وأن الأغاني التي تذكر الطائف، وتذكر أمكنة ومواقع فيه، هي كثيرة العدد، وقد جاءت بأصوات سعوديين وغير سعوديين، فأغنية (يا ريم وادي ثقيف)، الذي غناها ابتداء الموسيقار طارق عبدالحكيم رحمه الله، ما لبثت أن عبرت حدود الطائف والمملكة، ووصلت إلى الأقطار العربية وغير العربية، حتى غناها قرابة الثلاثين فناناً وفنانة من البلاد العربية وتركيا واسبانيا، وأغاني المجرور الطائفي، غناها مغنون سعوديون وعرب وصل عددهم قرابة الأربعين، إلى جانب كثير من القصائد العربية الشهيرة، مثل قصيدة (لطائف الطائف) لفؤاد الخطيب، غناها بالموال والمجس عدد من المغنين، والشعر الغنائي الذي تخصص في ذكر محاسن المثناة ووج والقديرة والرقاب وغدير البنات والهدا والشفا والقيم وخلافها، كل هذا الشعر الكثير، لقي حفاوة كبيرة من فنانين سعوديين وخليجيين ويمنيين وشاميين، مما أوجد للطائف مكانة علية في عالم الشعر والفن والفنانين، لا تحظى بها كثير من المدن السعودية والعربية.

كما حرصت في هذا المبحث الأول من نوعه، على التعريف بالفنون الشعبية للطائف، وبشعرها وألحانها، وقدمت مع هذه الدراسة التوثيقية الأدبية الفنية، ما استطعت الوصول إليه من غناء الطائف القديم والحديث، من خلال أكثر من 150 صوتاً غنائياً طائفياً، على أسطوانتين: (يوتيوب)، و (MP3).

إن من أهم عوامل الجذب السياحي للطائف المأنوس في قديم الزمان وفي جديده، الموقع الجغرافي المتميز للطائف، واعتدال مناخها، وطيب هوائها، ووفرة منتجها الزراعي، إلى جانب عامل مهم وهو ما تتوفر عليه من تنوع ثقافي وفني فريد، فهناك الكثير من ألوان الفن الشعبي والطربي والموسيقى، وهذا ما جذب إليها المصطافين والسياح في عقود مضت، يوم كانت بساتينها وحدائقها زاخرة بالحفلات الفنية التي يتسابق إليها الفنانون، وتحرص عليها أسر كثيرة من كل مكان.

هذه الميزة وتلك، تظهر بين حين وآخر في البنية التكوينية لأنشطة الكثير من المجمعات والمراكز السياحية التي تشهدها الطائف، ومنها شركة الطائف للاستثمار والسياحة، التي توفر العديد من برامج الترفيه لمرتادي مرافقها في تلفريك الهدا وقرية الكر السياحية على وجه خاص، فاختيار جبل كرا بين قمته وسفحه لمشروع عملاق لأول شركة سياحية بالطائف، بل الوحيدة حتى اليوم - ينم عن استيعاب واضح لتاريخ ومكانة هذا الجبل، وما له من حضور شعري وفني على مر العصور.

في الختام.. أتقدم بخالص شكري وامتناني، إلى كل من وقف معي وساعدني في مراحل هذا البحث، الذي أحسب أنه يسد ثغرة في تاريخ الطائف الثقافي والفني.

* من مقدمة كتاب «أغاني الطائف المأنوس»