الصلات بين مشرق ومغرب الوطن العربي الكبير قديمة، فهي صلات قربى، ودين، ولغة، ومصير مشترك، وتمتد إلى آلاف السنين، يوم أن كانت الجزيرة العربية قبل عصر النفط؛ جافية وطاردة لأهلها، ثم صارت مع النفط؛ حافظة لهم، وجالبة لغيرهم.
) كنت في الطائرة إلى الجزائر العاصمة قبل أسبوعين فارطين، فدارت في ذهني صور تلك الروابط القديمة، وماذا بقي منها اليوم، ذلك أن جزءاً كبيراً من سكان بلاد شمالي أفريقية، هم من البربر الذين تعود أصولهم إلى جنوبي الجزيرة العربية، ووصلوا إلى هذه الديار في هجرات متعاقبة، ومن ذلك- كما يذكر بعض كتب التاريخ- أن اسم (أفريقية)؛ مشتق من اسم (إفريقش) ملك اليمن، الذي كان أول من سكن هذه البلاد.
) بلاد العرب أوطاني.. من الشام لبغدان.. ومن نجد إلى يمن.. إلى مصر فتطوان.. كانت هذه واحدة من أجمل أناشيد الوحدة العربية التي كنا نتغنى بها صغاراً ونحن على مقاعد الطلب، فلما طغت الدعوة إلى (الأممية) بديلاً عن الوطنية؛ على أيدي الإخوانجيين وأدواتهم الصحويين؛ اختفت أحلامنا هذه، مع إخفاء أناشيد الفرح والأمل بوحدة وطنية عربية، من كافة مقرراتنا الدراسية.
) كانت هذه واحدة من مشاهد الحوار الهامشي على مائدة الملتقى العلمي الدولي: (المثقف والثورة .. الواقع والرهانات)، الذي نظمته جامعة: (8 ماي 1945م قالمة)، وشرفت بحضوره بدعوة من إدارة الجامعة، وهو واحد من (40 ملتقى علمياً) نظمتها الجامعة في عشرة أعوام، هو عمرها القصير، الكبير بالإنجازات البحثية والعلمية، فهي واحدة من بين (37 جامعة) تنتظم التراب الوطني الجزائري، يُطلب من كل كلية فيها تنظيم مؤتمر أو ملتقى علمي واحد كل عام، حتى أن جامعات الجزائر اشتهرت بكثرة وتنوع هذه الملتقيات، التي يحضرها علماء ومتخصصون من كافة أنحاء العالم.
) كنا نطل على الجغرافية الجزائرية بعد شروق الشمس جواً قادمين من الشرق، فهذه عنابة، وهذه قالمة، وهذه قسنطينة، حتى هبطنا في مطار هواري بومدين في الجزائر العاصمة. الطبيعة من الجو خلابة للغاية، مساحات خُضر على مد النظر، وسواحل عامرة، وأنهار جارية، وبحيرات وشطوط لا تنقطع، حتى إذا وصلنا إلى قالمة، عبر قسنطينة، راجت بيننا الأسئلة: لماذا لا تُستثمر هذه الطبيعة وهذه المعالم التاريخية والأثرية، ولماذا لا يسوق هذا الجمال الطبيعي في (بلاد العرب) قبل (بلاد الإفرنج)..؟!
) الحقيقة أن السفارة الجزائرية في الرياض؛ كانت كريمة معنا، فتأشيرة الدخول مجانية لضيوف مؤتمر علمي، ولم تتجاوز الإجراءات ساعات قليلة، وأصدقاؤنا في جامعة قالمة؛ كانوا في غاية التنظيم والكرم والعناية بضيوفهم الذين أتوا من عموم الجزائر، ومن السعودية، والمغرب، وعُمان، وتونس، والأردن. الأبحاث الأربعون المقدمة في قاعة المحاضرات؛ كانت جادة ومواكبة لما يجري في العالم وخاصة العربي منه، ويبقى المثقف العربي بعد كل الذي قيل في هذه الأبحاث؛ مجرد أداة بين أكثر من طرف في هذا المشهد المضطرب.
) ولاية قالمة التي تستضيفنا؛ واحدة من (48 ولاية)، أكبرها ولاية الجزائر التي تعد حوالي ثلاثة ملايين ونصف مليون نسمة. وقالمة تقع على (537 كلم) من شرقي الجزائر، بين ولايتي قسنطينة وعنابة، ولهذه الولاية الجبلية الرائعة الجمال، طابعها الصناعي، والفلاحي، والرعوي، والسياحي كذلك.
) ظهرت قالمة منذ العهد الروماني باسم: (malaca)، وقد اهتم بها الفرنسيون منذ سنة 1830م، وجعلوا منها قلعة وحصناً منيعاً محاطاً بالأسوار، ولهذا اشتهرت بالمقاومة والثورات على المستعمر، وفقدت (45 ألف شهيد) في معركة واحدة مع الفرنسيين يوم 8 ماي سنة 1945م، ولهذا خلدت جامعتها النشطة هذا الحادث الأليم في اسمها.
) ما زال أبناء قالمة يتذكرون معاركهم مع المستعمر، ففي كل ولاية جزائرية ذكرى أليمة، ومعارك سنة 1958م في ريف قالمة، كانت مشرفة، حيث أسقط الثوار طائرات للعدو على جبل (مرمورة)، وقتلوا العديد من ضباطه وجنوده، وكان مع الجزائريين الذين استشهدوا في سفح هذا الجبل في هذه المعركة الكبيرة؛ مجاهد تونسي، وآخر سعودي اسمه (امبارك مسعودي)، ومعالم المعركة، وحطام طائرة فرنسية، وإصبع الشهادة هنا، مما يستحق العناية به والزيارة في قالمة، التي تفخر بعدد من أعلامها الثوريين مثل: (سويداني بو جمعة)، و(هواري بو مدين)، الرئيس الذي ولد وترعرع في دار حجرية هنا من بيتين صغيرين، في سفح جبل أخضر مطل على وادي غاية في الجمال في (بني عَدي).
) كثير من المشاهد الحالمة في (قالمة) لافتة، وتبقى رهن حلم لمواطن عربي قادم من شرق الوطن العربي إلى مغربه، يرى الجزائر لأول مرة، ويتذكر برنامج التعريب في أواخر الستينيات الميلادية من القرن الفارط، يوم حل طلاب الجزائر زملاء لنا في مدارسنا في المملكة، وفي الطائف التي أنتمي إليها، فهنا في ولاية قالمة؛ (500) موقع ومعلم أثري وجمالي، منها المسرح الروماني بوسط المدينة، والثكنة العسكرية، والحمامات المعدنية الشهيرة، مثل (حمام دِباغ)، و(حمّام النبائل) على سبيل المثال، والغابات، والبحيرات، ومع ذلك؛ فالسياحة تبدو خجولة هنا كما شاهدت، ومعدمة عربياً في عموم الجزائر، البلد الذي دفع مليون شهيد من أجل عروبته وحريته من فرنسا، لكنه ما زال يرتبط بها بشكل كبير، لغوياً وثقافياً واقتصادياً، ويبتعد كثيراً عن محيطه العربي، الذي ينتمي إليه لغة ودماً وديناً وتاريخاً ومصيراً.