في مقال الأربعاء الماضي تمنيت أن تنصرف المجتمعات العربية والإسلامية إلى هموم المستقبل، بدلا من البقاء في كهوف الماضي، كالخفافيش لا تعتاش إلا في الظلام، وقبل أن ترميها القوى الأخرى في مزابل التاريخ، والبوادر على هذا الاحتمال واضحة.
لم أتعود أن تحصل مقالاتي على تعقيبات كثيرة من القراء، وكانت ثلاثة إلى خمسة تعليقات هي المتوسط، وأحيانا لا تعليق. هذه المرة، لمجرد أنني تساءلت متى تعلن وفاة الحسين ويزيد، أدخلت نفسي على ما يبدو في عش الدبابير. أعداد التعقيبات والاتصالات كان أكبر من المتوقع بكثير، بعضه يحمل تباشير الانفتاح التعايشي العقلاني، وبعضه ما زال يتحسس ما حوله بقرون الخفافيش.
انطلاقا من الردود التي وصلت أغتنم الفرصة لأشكر أولا الإخوة الذين صححوا غلطتي في التاريخ حين قلت: إن مقتل عبدالله بن الزبيركان في خلافة يزيد بن معاوية، والصحيح أنه كان في خلافة عبدالملك بن مروان. كتبت مقالي ذلك معتمدا على الذاكرة، والذاكرة قد تخون.
عزائي بعد الاعتذار عن الخطأ يتلخص في كونه لا يبدل في مقاصد المقال شيئا ولا في مجريات الأحداث نفسها، علما أن خصوصية نسيان الجديد والقدرة على تذكر القديم الذي قد طواه النسيان تعتبر علامة معترفا به طبيا على خرف الشيخوخة، والحمد لله أن الذي حدث معي هو العكس.
أعود إلى الموضوع، أي الدخول إلى عش الدبابير بحسن نية. الكثير من التعليقات كان انفعاليا ومتيبسا تيبس التاريخ القديم نفسه، مما قد يدل على أن بعض الرؤوس دخلت في مراحل التحنيط الفكري التي لا حياة بعدها، وذلك مما يزيدني إصرارا على تكرار التحذير من التعايش مع المومياءات التاريخية والحث على الخروج إلى فضاء الحياة لاستنشاق هواء جديد مثل الأمم التي تعيش المجتمعات الإسلامية الحالية عالة على إنجازاتها.
سوف أتجاوز مرتاحا عن أولئك المعقبين الذين تمنوا لي، استعلاء وتشفياً، أن أحشر مع يزيد، وأتجاوز عن من وصفوني بالكذب أو الجهل وعن من اقترحوا حصر كتاباتي في الرياضة أو فيما تخصصت فيه. أتجاوز عنهم لجهلهم الواضح يقينا بمقادير أنفسهم ولذلك يطلقون الأحكام على من لا يعرفون بمقاييس قدراتهم ومقاديرهم، ولاعتقادي أيضا بأن انفعالاتهم تدل بوضوح على أن المقالة لامست أمراضا دفينة في أعماقهم، أحقادا ثأرية جاهلية من الأفضل لنا جميعا أن تنفتح ليخرج القيح منها وتندمل الجروح.
يبقى الهدف الأخير من رجوعي مرة أخرى إلى عش الدبابير في مقال اليوم، كمحاولة لزيادة التوضيح لمضمون المقال السابق ولتكثيف التحذير من البقاء في أقبية التاريخ السياسية المتوشحة بمسوح الدين، مع المعتاشين على البيع والشراء في سراديبها على حساب مستقبل المجتمعات الإسلامية وخصوصا أجيالها القادمة.
لم أكن في مقال الأربعاء الماضي في وارد إجراء مقارنة في الصلاح والفساد بين شخصين توفاهم الله قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام، ولا أتقول على الله تعالى (كما يفعل البعض) حول من منهما في الجنة ومن في النار، ولا أناقش في إشكالية الظالم والمظلوم. قلت فقط إن كل أمة من أمم الأرض لها حسينها ويزيدها، لكنها لم تستطع تحقيق المستقبل إلا بعد ترك حسابات أمواتها للخالق سبحانه وتعالى وبدء كتابة صفحات جديدة في التاريخ. هذا المشروع لا يلغي، كما يتخيل البعض، الاحتفاظ بصفحات التاريخ المشترك المفيدة للجميع. إنه مشروع يتقصد الاحتفاظ بالجامع الثمين ودفن المفرق الضار مع الموتى وترك العقاب والحساب لله وتقديره، وهو خير الحاكمين.
إنني سعيد بالكم غير المتوقع من التعليقات على مقالي السابق، بما كان منها هدفه تعضيد فكرة المقال ومقاصده، وبالتأكيد أيضا بما كان منها ضاجا بالألم والصراخ بما يحمله من دلالات على وجود شيء غير صحي في الداخل يحاول العقل السليم لفظه إلى الخارج.
نعم، كانت رحلة مثيرة في عش الدبابير، ولكن خلايا النحل كانت أكثر بمراحل، والعقلاء هم من يفضلون عسل النحل على سم الدبابير.