قبل أن أدخل [عِشَّ الدَّبابير] محسورَ الرأس، ضاحي الجسد؟ أود أن أحدد مفهوم المصطلحات ذات العلاقة بالتناوش. فالخصوم الذين لايحترمون المصداقية، قد لايتحرج البعض منهم من تقويل مناوئيهم مالم يقولوا. أملاً في توهين عزماتهم،
واستنزاف طاقاتهم بالهوامش، حتى إذا شارفوا المتون، دخلوها منهكي القوى، خائري العزمات. وهم يفعلون ذلك على شاكلة الحشرات السَّامة التي تلدغ فرائسها لتجهدها، وتضعف مقاومتها.
ولأنني ممن خَبَر هذا الصنف من الخصوم، فإنني لا أجد بداً من تحديد مَفْهومي للأشياء المموضعة، سعياً وراء تحصين الثغور المعرفية، التي أنافح عن مقتضياتها، ومحققاتها.
-فما الحداثة التي أُحَمِّلها جريرة الجناية على التراث؟.
إذ ليست كل حداثة مدانة، ولا كل حداثي مرفوض.
الحداثيون المتلبسون بالحداثة المدانة يخادعون الدهماء، حين يضعونها بإزاء القديم، ويضربون الأمثال بـ[الثلاجة] في إزاء [الشَّنِّ]. و[السيارة] في إزاء [الناقة]. و[الصاروخ] في إزاء [السيف]. و[الطائرة] في إزاء [الفرس].
وحين يُسَلِّم الجميع لهم، يُمَرِّرُون الحداثة المختبئة في أعماقهم. قلت بملء فمي من قبل، ولما أزل أردد: إذا كانت الحداثة تعني الأخذ بالمستجد الحسي، أوالمعنوي: من الإبرة إلى الصاروخ، ومن غزو الفضاء إلى الغوص في أعماق البحار، فإنني حداثي من ناصية رأسي إلى أخمص قدمي.
وإذا كانت الحداثة طلبَ العلمِ الدنيوي من المهد إلى اللحد، والسعي إليه في جامعات العالم المتقدم، والتعرف على أدق علوم الطب، والهندسة، والذَّرة، وسائر الصناعات الثقيلة، والخفيفة، فأنا ابن بجدتها.
وإذا كانت الحداثة تَعْني الوصول إلى ماحققته دول العالم المتقدم من المكتشفات، والصناعات، وماحققته [أمريكا] ودول أوروبا -على سبيل المثال- من أنظمة، وضوابط سلوكية، وتعاملية، وما أنشأته من مؤسسات مدنية، ودساتير سياسية، فإنني أول الحداثيين.
ومن ثم فلا مجال للمراوغة، أوالمخادعة. ولا مزايدة على موقفي من الحداثة، كما أفهمها: حداثة العهر، والكفر، والتحلل من القيم الإسلامية، حداثة التنكر للتراث، والخيانة في قراءاته، وتأويله تمهيداً لنْقله إلى مزبلة التاريخ.
ما أحمد الله عليه أن المُتَحَدْثِنين من خصومي في وطني [المملكة العربية السعودية]، ليسوا على شيء من الحداثة المارقة، وإن نافحوا عنها على إطلاقها، أو قلدوا بعض فلتاتها، ومعمياتها، وانطفاء شعرها. إنهم أبناء الفطرة، وإن لم يكفوا الغيبة عن أنفسهم باطلاقاتهم العائمة، ومقولاتهم الحمَّالة لكل قراءة.
على أن صراعي السابق مع الحداثة، ومع المتهافتين على أضوائها السرابية كالفراش، يحتاج إلى مراجعة، وتقييد. فصلف المتحدثنين، وتعاليهم، وأثرتهم، حَوَّلت الحوار الموضوعي إلى لجاجة فارغة، بطأت بالإيجابيات، واضطرت محبي السلامة إلى مبارحة المشهد، ليخلوا لِقُبَّرات فارغة، لاتملك إلا الصفير، والتنقير.
وعودتي للحديث عن جناية الحداثة، لايمت بصلة إلى ماسلف، ولايمس أحداً من خصوم الأمس. ذلك أن لهم حداثتهم المهجنَّة، التي لاتمت بصلة إلى ما أريد تفنيده.
ثم كيف أنكث عهداً أخذته على نفسي، برفع ذلك الملف المهترئ من كثرة التقليب!. وكيف أفرط بِمُصَالحة سعى إليها الخيرون من أصدقائي لتصفية الأجواء!، وأزالوا مابيني وبين إخوة، أكبر فيهم جنوحهم للصلح، ومبادرتهم إليه.
حتى لقد قلنا جميعاً بلسان الحال والمقال:- [عفى الله عما سلف].
الشيء المؤكد أنني لم أتحول عن موقفي من الحداثة بمفهومها الغربي.
والشيء المؤكد -أيضاً- أنني لما أزل أمقت التذيل للآخر، والتنكر للتراث.
والزمن الممتلئ بكل جديد، يضطر المتابع إلى التحرف، أو التحيز لما هو أجدى، وأهدى، مع الاحتفاظ بالثوابت والمسلمات:-
[ومن ذا الذي ياعز لايتغير]
مايوده المؤمن الثبات على الدين الصحيح، والانطلاق في آفاق المعارف، والمستجدات، تمشياً مع: [أنتم أعلم بأمور دنياكم]. فالإرث الإنساني قاسم مشترك، وحَسَنه لايتعارض مع الإرث النبوي. المهم أن نجد المقتدر على إدارة هذا التداخل، والاشتغال المحكم في إطار تلك القواسم المشتركة.
ومقاربتي تلك ليست حنيناً إلى ماضي الشباب، ولكنها وليدة قراءة جديدة لما جد من أساطين الحداثة الفكرية، الذين لايألون فكر السلف الصالح خبالاً، وسعياً وراء إثبات الدَّعْوى ضد هذه الحداثة:-
[والدعاوى إذا لم يقيموا عليها .. بينات أهلها أدعياء]
إنها مقاربة تود تجلية محققات الجنايات التي اقترفها الموغلون في وحل الحداثة باقتدار، وإصرار، وترصد. وهي جنايات لاتخفى منها خافية.
ولما كنا أمة لها إرثها المقدس، إلى جانب إرثها البشري، الذي رادَ للانسانية مجاهيل الحياة، كان لزاماً عليها ألا تمل من مواصلة قراءته بعيون العصر، ومعطياته، لتوفره على احتمال هذه القراءات، وقدرته على تناسل المفاهيم الجديدة، المستجيبة لمختلف النوازل.
وتفكيك النصوص على مختلف المستويات تحقيق للوجود المتكافيء، وهو مالم يبادره المتذيلون للحداثة الفكرية المادية، مع مايتوفرون عليه من قدرات استثنائية.
والقارئ الجاد لمعطيات العصر، لابد أن يَسْتكنه ظاهرة الاستشراق، بما هي عليه من تفاوت في المقاصد، والقدرات. وَقُرَّاء الاستشراق ليسوا سواء في التوفر على آليات المقاربة ومناهجها، وتوفر المصداقية.
ومن ثم فإن تحري الصدق، والعدل مطلب رئيس، لكيلا يكون التأسيس المعرفي على جرف هار، ومن قارب تلك الظاهرة دون وعي، جاءت على يده الحقائق حُوْلا.
والتسديد في قراءة الإرث الاستشراقي سبيل من سبل السيطرة على الحداثة الفكرية، والكشف عن عوارها. لأن الحداثة المدانة تخلقت في رحم الاستشراق.
الحداثيون الماديون العرب المعاصرون، يتوفرون على جَلَدِ الفاجر، والعمق المعرفي، والشمول الثقافي، ومن ثم تَحْسُنُ الاستفادة منهم، بِوَصْفِهم أساطين علم، وكنف معارف. ومن استخف بأحد منهم، أو سخر منه، فوت على نفسه فرص التضلع من معطيات العصر، ومن جايلهم بمخلب غض، وجناح قصير، تبخر في أتونهم واندثر.
إنهم بحق عمالقة العصر، وفرسانه، وشنآنهم لايخول الجور في الحكم عليهم، ومن ثم لا بد في كل حوار من العدل، والمصداقية، والنِّدِّية.
الحداثيون الذين نسلوا من عباءة الاستشراق، واتسموا بالخيانة والجناية على التراث البشري والمقدس، لايترددون في التأويل الفاسد لمقاصده وحقائقه، هذا التأويل الذي يُفْرِّغ النص من محتواه، يفرغ المشهد من التراث، وإن ظل قائماً، وذلك عين المقترف، وذات الجناية والخيانة، المستشرقون أنسنوا المقدس ودنسوه، والحداثيون استمدوا هذه الرؤية واقتاتوا منها، واعتورت سهامهم الإرث من كل جانب.
يتبع...