من حق المفجوعين بانهيار القيم، واضمحلال المسلمات، واستفحال الفواجع، أن يتساءلوا، كما تساءل مِنْ قبلهم المحتشدون لـ (مداولات القرن الحادي والعشرين) عن مصير القيم. وهو المشروع الفكري الذي تبنته منظمة (اليونسكو).
هناك قواسم مشتركة بين مختلف (الأيديولوجيات). والتداخل الدائري بينها، قد يتسع، وقد يضيق، واتساعه ربما يقترب من المطابقة.
والمشكلة ليست وقفاً على مجرد الاختلاف، أو التطابق، ولكنها في سوء الفهم، أو سوء الإدارة، أو فيهما معاً.
فَمْن فهم الأشياء على طبيعتها، وأحسن إدارتها، حقق قدراً كافياً من التعايش، أو التعاذر, أو التصالح.
ومن أخفق في شيء من الفهم، أو الإدارة، استحالت عنده إمكانيات التعايش.
والمسألة ليست في التعايش، أو التدابر، ولكنها في عدم التفريق بين الثوابت، والمتغيرات، وفي تصعيد صراع الحضارات إلى الصدام. وهي إرهاصات لخطاب العدمية، وضياع المثمنات، وزوال القيم، وتلك المراوحة تتحقق من خلالها تنبؤات (نيتشه) و(سارتر) الذيْن اجترحا (موت الإله) و(موت الإنسان). وهي مقولات رمزية، لا تعني حقيقة الموت، ولكنها تعني الدخول في عالم يصنع قيمه.
كان بودي أن أكون قادراً على التخلص من رواسب قراءتي لكتاب (القيم إلى أين؟) الذي أعده لفيف من المفكرين المتباينين في مشاربهم الثقافية، و(الأيديولوجية). غير أني أراوح بين مضامين هذا الكتاب المفعم بالتجارب، والمعارف، والرهانات، ومحجتي البيضاء التي لا أنفك أتمترس خلفها، كلما اعتورتني سهام المبادئ والقيم المادية.
والعالمون المجربون المتأنون, يحرصون على سلامة القنوات، وجسور التواصل مع مختلف الطوائف، والأطياف، وتقديم الحوار على الصدام. فالكائن البشري مهما اختلف في جنسه، أو لغته، أو لونه، أو معتقده، له قسط من الكرامة، والحق. لو عرفه الجميع، لسارت الإنسانية دون صدام.
والدين الإسلامي يقر هذه الكرامة، ولا يجنح إلى الصدام، ما أمكن السلام: { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّه}.
وانتهاك الحقوق تحت أي مبرر لا يمكن القبول به، والذين يستبدون، ويحتكرون الحقيقة، ويمارسون العنف، لحمل الناس على ما يرون، يُخلُّون بهذه الحقوق الإنسانية المؤيدة من الإسلام، ثم لا يكون أحدهم على شيء مما عُلِمَ من الدين بالضرورة.
الأغرب مما سبق, أن الجميع يقرون بهذه المسلمات، ويدَّعونها، ولكنهم يتصرفون بما لا يتفق مع أبسط هذه الاعترافات.
لا أريد مسايرة الدعاية الغربية التي تحتكر العدل، والمساواة، والحرية، واحترام حقوق الإنسان, وتدعي أن ما سواها يمارس الظلم، والطبقية، والعبودية، وانتهاك الحقوق، والجهل.
وكيف يدعي ذلك، وعنده من البدع الكبرى ما يضاهي بدع الشرق؟
الغرب يمارس العدل مع شعوبه، ويمارس الظلم، والعنف مع من سواه. والفرق بين شعوب العالم المدني، والعالم النامي،أن الأول يمارس الهمجية خارج أرضه، والآخر يمارسها ضد عشيرته الأقربين.
وهنا لا يجوز أن نضيف المثالية، والإنسانية المطلقة لأي من الطرفين. فالظلم حين يمارسه الغرب ضد شعوب العالم الثالث, لا يختلف عن الظلم الذي يمارسه العالم الثالث ضد نفسه. الظلم هو الظلم، والهمجية هي الهمجية، الشيء الذي نعيب فيه عالمنا الادعاء العريض، وعدم معرفة الذات بكل ما هي عليه من بشاعة في المظهر, والمخبر. السؤال المُلح:
_ هل تكون المفاهيم بهذا القدر، مع وجود الثوابت الدينية والأخلاقية؟
وهي المتعارف عليها بما عُرِفَ من الدين بالضرورة.
الغرب صادق مع نفسه، ومع إنسانه، والمشرق العربي كاذب مع نفسه, ومع إنسانه. ويبقى الظلم، وانتهاك حرمة الإنسان قسمة بين الشرق، والغرب.
وإذا هالنا القتل الهمجي الذي تمارسه طوائف ضالة، تدعي الإسلام، وهي ليست منه في قبيل ولا دبير، فإن الغرب مر بما هو أسوأ من تلك الوحشية. والحربان العالميتان خير شاهد.
لا أريد بهذا القول الدفاع عن وحشية الإنسان الثالثي، ولا عن جهله, وتخلفه، ولكنني أود أن أقول: إن الإنسان هو الإنسان، مقل ومكثر من هذه الجنايات الفادحة، والإيغال في الخرافة.
الخطير في مسار عالمنا تصديقه لإطلاقات الغرب.
والمفكرون الذين يستنكرون هذا التسليم الغبي، لا يُنْحون باللائمة على أمتهم التي وقعت ضحية الفخ الإعلامي، وإنما يجتهدون في تبرئة المقترف، وتبرير تصرفه المشين.
الكثير من الأغبياء، أو المتغابين يصدق الأكذوبة القائلة: بأن الدين عامل تخلف، مستدلين بفصل الدين عن الدولة في الغرب، متوسلين بـ(العلمانية الشاملة) المهيمنة كشاهد على تحقيق النجاحات.
الذي اتخذه الغرب، وحقق به التقدم، والسيطرة على العالم، ليس هو التخلي عن الدين الصحيح، والممارسة المشروعة, ومع ذلك فقد أبقى الانتماء، وخلص من الهيمنة الكنسية. إنه عالم متدين في دواخله، وفي مواقفه، العالم الغربي تخلص من دين مزيف وممارسة خاطئة.
والمسلمون لن يتخلوا عن دينهم، ولن يتحرروا من هيمنة الدعاية الكاذبة ضد الإسلام، ومن ثم كفوا أيديهم عن محاولة المسايرة، ولم يجرؤ عقلاؤهم على ممارسة الفصل بين الدين والحياة. كان بودي لو سأل المتردد نفسه: ما الذي يحول دونه الإسلام في مختلف مجالات الحياة؟
لقد حقق الغرب معجزات في الطب، والصناعة، والنظام. وما من شيء من ذلك يمنعه الإسلام. المسلمون يقتربون من تزييف الدين، وخطأ الممارسة. وواجبهم التصفية والتربية، وليس فصل الدين عن الحياة.
هناك منع، أو امتناع عما حقق به الغرب نجاحاته مما يتحمله الإسلام. لو حملنا ذلك الشعور لكان بإمكاننا أن نقيل العثرة، ونساير الغرب في تقدمه المادي، مع الاحتفاظ بمحققات الدين، وهو ما علم منه بالضرورة.
الأخطر من كل ما سبق السعي لعزل الإسلام عن الحياة، والدخول في نفق العنف والإرهاب باسم الإسلام.
الإسلام الحقيقي قائم في النفوس، وهو ضد العنف، وضد التشدد :- (إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق, فإن المنبت لا أرضاً قطع، ولا ظهراً أبقى) و(بعثت بالحنيفية السمحة).
وإذا اجتمع العنف الدموي، والجهل، والتخلف، وكانت كلها تمارس باسم الإسلام، أصبح من المتوقع ارتياب الشباب، وشكهم، واستجابتهم للبديل الغربي، الذي يُسَوِّق لـ (علمانيته) و(لبراليته).
واجب الدعاة في ظل هذه الظروف تجنيد أنفسهم لمهمتين، تسبقان الدعوة للإسلام.
أما أحدهما:- فالدفاع عن الإسلام الصحيح الخالي من العنف والقتل الهمجي، واستحضار ما علم من الدين بالضرورة, لتوقي نواقض الإيمان.
وأما الأخرى:- فتصحيح مفهوم الإسلام لدى معتنقيه المتمثل بمشروع العلامة (محمد ناصر الدين الألباني) التصفية والتربية.
ففي الأولى تحسين الصورة، وفي الثانية تصحيح المفهوم، ومتى حسنت الصورة، وصححت المفاهيم استطاع المسلمون دخول ميادين المنافسة بإمكانيات ربانية.
ولن يتحقق شيء من ذلك إلا باستخدام المنهج الدعوي الذي توسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة. كان قدوة في أخلاقه، متودداً في علاقاته، مرحلياً في دعواته، محتملاً ما يلاقيه من أعدائه، رحيماً بمن سلطوا عليه عبيدهم وسفهاءهم.
لقد سيء للإسلام من ذويه، ومن حملته، وحيل بين شعوب العالم, وفهمه كما جاء، وأصبح المبلِّغون منفرين، ومشوهين، ومشككين. ومع كل ذلك يبقى الإسلام محمولاً في الصدور، والمسطور بانتظار من يأخذه بحقه, ويبلغه كما جاء.
لا أجد فيما توصلت إليه من معارف, وأحكام مبيحاً للعنف والتطرف والإرهاب الذي يمارس باسم الدين، والدين منه براء.
والضالون الذين يُكبِّرون عقب كل خطيئة تسيل معها الدماء، وتدمر الممتلكات يضاعفون مقترفاتهم. فالله أكبر، وأجل من ذلك التوحش.
لقد دُنِّس الإسلامُ واختطف تسامحه منذ القرون الأولى، حين واكب المنافقون بدايات التأسيس، وجاءت في أعقابهم (السبئية) التي صدعت وحدة الأمة، ونسل من عباءتها (الروافض) و(الخوارج) و(القرامطة) ولم يخل عصر من تنظيمات سرية تستبطن العنف، والدموية, والتدمير.
والمتتبع للسلسلة الصدئة، لا ينفك من لوثة الملل والنحل التي حالت دون انتشار الإسلام بالقدوة الحسنة.
لقد شاعت المراكز الإسلامية في (أوربا) و(أمريكا) ودخل الناس في دين الله أفوجاً، وفجأة صدم العالم كله بأحداث الحادي عشر من سبتمبر, فصوح نبت التسامح، والرحمة. وتعكر صفو الإسلام، كما أراده رسول الرحمة، وشاع الإرهاب، وتنوعت مسمياته، واختلطت الأوراق، وأصبح العقلاء في أمر مريج, لا يفرقون بين المقاومة المشروعة والعنف المستنكر.
فمن (داعش) إلى (القاعدة) ومن (بوكو حرام) إلى طائفيات متعفنة, تتعمد نسف الوفاق.
هذا الواقع المخجل لكل مسلم، لا يمكن استنقاذه، إلا بالعودة إلى القيم التي شرعها من لا ينطق عن الهوى.
فهل من سبيل إلى كلمة سواء؟
تلك مسؤولية العلماء، والمفكرين، ورجال الإعلام، وكُتَّاب الرأي. لقد مللنا جلد الذات، والتيه في دروب الحياة، ولم تبق وحدة فكرية، بحيث نحميها من التصدع.
الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «بلغوا عني ولو آية» ولم يقل بلغوا الإسلام كما تريدون، ولم يقل أكرهوا الناس على ما تريدون. إن على المتصدرين أن يبلغوا الإسلام كما جاء، لا كما يتصورون.
وبهذا يتوفر الجميع على العلم بالدين كما جاء، وهو ما علم منه بالضرورة.