والقصة والرواية ليستا بأقل أهمية من الشعر، من حيث ضوابطه الشكلية واللغوية والفنية. واستخفاف الكتاب بالضوابط الأخلاقية، والمعايير الفنية حَوَّل جُلَّ الإبداعات إلى غثاء كغثاء السيل.
وداء المشهد من النقاد المُقْوين، المجاملين،
والمتشايلين، فكل من أصدر عملاً قصصياً، أو روائياً، وجد من يُمجِدَّه، ويعلي من شأنه، ويمنح إنتاجه المدح الباذخ، والتزكية العريضة.
ولأنني لست مرتهنا للجمالية الأسلوبية، والنقاء اللغوي، فأنني أود ألَّا يتبادر إلى الذهن تقابلي مع تعالق [المعري] بالمعاني، وعزوفه عن الجماليات، وذلك حين قال عن شعر [البحتري ] بأنه [عبث الوليد]. فـ[المعري] ذَوَّاق للمعاني، ومن ثم بهره «المتنبي» بوصفه شاعر معاني، وحين شرح ديوانه سماه [معجز أحمد].
ولأن «البحتري» بارع في الجماليات، فقد وصَفَ شعره بالعبث. وفي المقابل شاعت مقولة:- [أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري]. ووصفي للإبداعات السردية، بالعبث لا يمت إلى رؤية «المعري» بصلة، فالموضوع لا يعدو كونه توارد خواطر .كما أنني لم أتأثر بموقف [العقاد] من العمل الروائي، الذي يفضل بيت الشعر على رواية كاملة.
أنا وسطي، ألتزم بأدبية النص السردي، وأُلْزم المبدع بالقيم السلوكية. ومهما تشعبت بنا الطرق، وتنوعت بيننا المشارب فإن طائفة من السرديين أوغلوا في العبث، وتمادوا في الإسفاف، وأخفقوا لغوياً وفنياً، ولم يُهَيَّأ لهم نقادٌ يأخذون على أيديهم. بل وجدوا من يمدهم بالغي. وما من ناقد متضلع من لغته، مستوعب لفنيات أدبه، إلا ويستاء مما بلغته الرواية العربية من ترد مشين، بلغ الدرك الأسفل من الإسفاف، والضحالة، والركاكة، وسوء الأدب. والنصيب الأوفى من هذه الترديات يمس [الرواية السعودية].
القارئ - أي قارئ- عندما يجترح القراءة، يتطلع إلى عوائد، ثمناً لجهده، ووقته، وماله الذي أنفقه، ويتمنى تنمية ثرائه اللغوي بما يتوقعه من كلمات غير شائعة، وتراكيب غير مألوفة وعبارات وأساليب جميلة الإيقاع، كما يتطلع إلى إثراء تجاربه بالمواقف الإنسانية الشريفة، والأخلاق الفاضلة، والحوارات الحضارية، والسرديات المفعمة بالحكمة، وفصل الخطاب. وبهذا يتعانق شرف اللفظ، مع شرف المعنى.
ودعك من سلامة الخط من الأخطاء الإملائية، وتوفره على علامات الترقيم.
أدبية النص، وأخلاقيات الأدب مطلبان رئيسان في السرديات التي لا تقيدها معيارية الشعر، وضوابطه العروضية.
كتبة القصة والرواية، لا يستحضرون هذه المعطيات الضرورية، ولا يرونها مطالب أولية، ومن ثم تفيض أعمالهم بالغثائية، والأساليب العامية، والشيوع اللغوي. والقارئ أمام هذا الفيض الرخيص يعود صِفْر اليدين من أي عائد.
وحين نصم هذا الفيض الكلامي الهابط بالإخفاق الفني، فإنما نومئ إلى متطلبات أركان البناء الروائي، الذي تعارف عليه النقاد المنظرون، من زمان، ومكان، وشخصيات، وأحداث. ولكل ركن محققاته التي لا يعيها كثير من الكتبة.
فالزمان يساق كما لو كان ظرفاً حتمياً، ولا يوظف تفاوت طقوسه، ولا تستغل معطيات أجزائه، وفصوله، من فجرٍ، أو صبحٍ، أو ضحى، أو ليل، أو نهار، أو صيف، أو شتاء.
وقل عن المكان مثل ذلك، وعن سائر الأركان. إنها تساق متخشبة، جامدة، مفصولة عن الغرض والحدث، ومن ثم لا تسهم في تكثيف الدلالة، ولا في تأزيم المواقف، أو حل عقدها.
ومن المؤسف أننا نباهي بالكم، ولا نقيم وزناً للكيف، وهذه المواطأة أغرت الكتبة المبتدئين على مبادرة الإصدارات، وتلاحقها، دون شرط، أو قيد.
ولو ظفر المشهد الأدبي بنقاد لا تأخذهم في الحق لومة لائم، لما تدافع الشباب، والفتيات، وأقدموا على اقتراف مثل هذه الخطيئات، ولما تجرؤوا على إصدار تلك الأعمال الروائية الفجة الرديئة، التي قد لا تساوي المداد والورق. فاللغة منطفئة، والعبارات مفككة، واللحن مُسْتشرٍ، والمعاني هابطة، وأدب الاعتراف سيد الموقف، والتجاوزات الفكرية والسياسية سمة بارزة في كثير من الأعمال، والتمرد على الضوابط الفنية ديدن السواد الأعظم منهم.
وحين اجْترحتُ النقد لبعض الظواهر المسيئة للإبداع السردي، كنت كمن تقحم [عش الدبابير] حتى لقد وُصفت بالمتطفل على النقد السردي، بوصفي متخصصاً في نقد الشعر.
ولكي أهزم الجَمْع، تفرغت لدراسة [النقد البنيوي للرواية العربية]، ونشرت نيّفا وثلاثين حلقة، في ملحق الأربعاء، بـ[جريدة المدينة]، ثم كتبت مدخلاً تاريخياً للسرديات المحلية، ألقيت نواته بـ[نادي حائل الأدبي] واستحضرت فيه آليات النقد السردي ومناهجه، ومع ذلك لم يسُلِّم لي المكتوون بلذعاتي التي قد تحز إلى العظم.
وما أردت من إطلاقاتي الضجرة إلا الإصلاح، وترشيد المسار، ولكن المبتدئين يتهافتون كالفراش على بؤر الأضواء، لأنهم يجهلون ما يضر بالمشهد الأدبي. وما دروا أن تهافتهم على الأضواء، يكشف ضعفهم، ويبدي سوءاتهم.
ما أوده، وأتمناه لمشهدنا خاصة، ولكافة المشاهد العربية، تنقية الأجواء، ونفي الخَبَث، وكشف الزيف، والتفريق بين العبث باللغة، والفن من جهة، وإحياء اللغة، وتحقيق الفن من جهة أخرى.
والرواية الحِقَّة لا يُجَلِّيْها في صورتها السوِيَّة إلا الموهوب، المجرب، الممتلئ ثقافة، والمتضلع لغة. والذين يستخفون بالعمل الروائي، ويظنونه مجرد كتابة عفوية، يغثون النفوس، ويعكرون صفو المشاهد.
إن العمل الروائي أشد عناء من الشعر، ولقد حَذَّر الشعراء من مقاربة الإبداع الشعري بدون إمكانيات، حتى قال قائلهم:- [الشعر صعبٌ وطويلٌ سلَّمه]، أن الرواية أصعب طريقاً، وأطول سلَّماً.
لقد غالبت نفسي، واستقبلت عشرات الأعمال الروائية شِرَاءً وإهداءً، ولم أجد في أكثر ما قرأت عملاً واحداً يستحق إنفاق الجهد والوقت. ومن ثم عدت أضرب كفاً بكف، وأترحَّم على أساطين السرديات الذين وضعوا أسس الإبداع السردي، وأثبتوا اقتدارهم، ومواهبهم.
ومتى تواصل الدفع بالروايات الخاوية، بهذا الشكل، وبهذا الكم، فإن الإبداع السردي سَيمْنى بفشلٍ ذريع، وسيجني النقاد المواطئون على مشهدهم، وسيكتب التاريخ جناياتهم التي لن تغفرها لهم الأجيال القادمة.
أقول قولي هذا، وأنا على علم بمن أبدعوا، وأجادوا، من القصاص، والروائيين، وبالذات في عصر التأسيس على يد الروائي [حامد دمنهوري] وهم كثيرون. ولكن الحكم على الأغلبية.
إن في وطني مبدعين، ومبدعات، لا يقلون عن عمالقة السرد في الوطن العربي، ولكن كثرة المغثين، تطمس إشراقة المؤصلين.
وحاجتنا إلى نقاد الموقف، الذين يغامرون لإنقاذ المشهد، ويضحون براحتهم، وسمعتهم لقمع المتطفلين على المشاهد الإبداعية، وهم ليسوا من أهلها.
وخير لنا أن نأتي متأخرين من ألا نأتي أبداً، وعلينا أن نمتلك الشجاعة، والموقف، لنقول للتافهين: هلموا إلى مقاعد الدراسة، فالوقت لم يحن بعد لممارسة الكتابة الإنشائية، فضلاً عن الإبداع السردي.
إن الجناة حين يأمنون العقاب يسيئون الأدب، ومشهدنا الأدبي بحاجة إلى الكيف، وليس من مصلحته مخادعتنا بالكم.
فليجرد النقاد سيوفهم من أغْمادها، وليذودوا الأدعياء عن حياض مشهدهم، فالسيل قد بلغ الزبى، وهمَّ بالإبداع السردي من لا يحسن الكتابة، ومن لا يقيم وزناً للقيم.
وحملة الكلمة مطالبون بأن يقولوا للناس حُسناً، ولا يصعد إلى الله إلا الكلم الطيب. فلنكن في مستوى مسؤوليتنا، وثقافتنا، وموروثنا الذي ألهم البشرية، وأنار لها الطريق.