كم هو الفرق بين من يُنَقِّب في تجاويف الأفكار حاضرة المشاهد، للتعرف على إمكانياتها الذاتية، وتأثيراتها العميقة، واتباع أحسنها، ومن يتشفى بهتك العورات الفكرية، والتلذذ بإسقاط الخطائين ابتداء، دون تقديم البدائل، التي تملأ الفراغات.
من المسلمات أن الفكر العربي المعاصر لم ينج من دخن الأفكار المادية الطاغية. وذووه مقلون، أو مكثرون من تلك اللَّوثة. وهي قد تنتاب أحدهم، ثم لا يُلْقي لها بالاً، ولا يوجف بها على نقاء الفكر العربي، ولوْ جُودِل العاثر بالتي هي أحسن، لبادر إلى التخلي عنها. وقد يتلبس البعض بها، وهو لا يدري أنها تقدح في فكره.
وما أكثر الذين يقعون في نواقض الإيمان، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. وحين يكون الوقوع غَيْرَ متعمد، والواقع مستعد للتراجع، متى وجد من يأخذ بيده، ويهديه سواء السبيل، ويعالج سقطته بالحكمة، والموعظة الحسنة، فإن الأمر لا يكون مثيراً، ولا مخيفاً، ولا مستدعيا للتشهير ، ولا الاستعداء.
والمتعقب لعمالقة الفكر الحديث، لا يعوزه الوقوف على الشطحات التي لا تليق بمثلهم. والحيُّ لا تؤمن عليه الفتنة. والعقلاء يشفقون من النكسات الفكرية، التي لا يُحْسَبُ لها أيَّ حساب. والمؤمن الحق من يفعل الخير الخالص، وقلبه وجل.
ومن عقيدة أهل السنة والجماعة الوقوف بين الرجاء، والخوف. ومن سمات الخير، وبوادر القبول أن يُحْسِنَ الإنسان ظنه بالله، وأن يستحضر سعة رحمته، التي وسعت كل شيء. وفي الوقت نفسه لا يأمن مكر الله، فقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء. وفي الدعاء المأثور: [اللهم يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك].
والمتعقبون لشطحات المفكرين، لا يلتزم أكثرهم بالتوازن، ولا يحسنون الظن، ولا يمارسون الاحتواء ولا يجيدون لغة الحجاج الراقية. ومن ثم تكون تصدياتهم مشروع تنفير، ونَسْفٍ لقنوات الاتصال.
والأسوأ من ذلك كله تضخيم الهفوات، والتوسع في الاتهامات، والتحذير من كافة منتج المفكر، الذي زلت به قدمه في ساعة من ساعات الغفلة، والتعجل، ثم لم يعد لمثل ذلك.
وحين نقطع بأن المشهد الفكري لا يخلو من لوثة الفكر المادي، فإن واجبنا أن نتوسل بالرفق، والحلم، والأناة، وحسن الظن، واحتواء المخالف، وتأليف القلوب.
والإسلام جعل من أهل الزكاة [الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ] وهم الزعماء، والقادة، والكبراء الذين يُؤَثِّرون بإمكاناتهم على من حولهم من اتباع: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}.
نحن لا نريد أن نتآلف قلوب المخالفين بالدرهم، والدينار، أو بالمنْصب، لكننا نريد أيْسرَ من ذلك، نريد الكلمة الطيبة، واللين، والتودد، وإشعار المخالف بأن الطرف الآخر مشفق عليه، رفيق به، متودد إليه.
ولاسيما إذا كان المخالف ممن أوتي بسطة في العلم والشهرة والتأثير. فاحتواء هذا الصنف يحقق مكاسب لا تُقَدِّر بثمن، والرسول - صلى الله عليه وسلم - تَمَنَّى إسلام أحد العُمَرين، لما يتمتعان به من قوة وتأثير. وهو قد ضاق من [ابن أم مكتوم] لحظة انغماسه في مجادلة صناديد قريش.
وكم من زعيم قَبَلِي في زمن الدعوة أسلم ، وأسلم بإسلامه قَوْمُه . وتلك مكرمة للداعي: [لأَنْ يَهْدِي اللهُ بك رَجُلاً واحداً خيرٌ لك من حُمْرِ النِّعَم].
وإذا باشر المُصْلِحُ الحوار مع الطرف المخالف، فإن عليه ألا يقطع بالضلال، وألا يحكم بالخطأ، إذ هناك مجالات أخرى، تنبه المخالف، ولا تجرح كرامته. تمشياً مع:{وَإِنَّا أو إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أو فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}. إن علينا أن نتساءل، لندع الفرصة متاحة للانتباه، ومراجعة النفس. وكيف لا نتعمد الرفق ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لمطيل الصلاة: [أفتَّانٌ أنت يا معاذ]. ويقول للمخالفين الذين يعرفهم بسيماهم: [مالي أرى أقواماً يفعلون كذا وكذا]. و[حدث الإفك]، لم يسَمِّ فيه أحدٌ من متولي كبره، وهم معروفون بأسمائهم.
ثم إن هناك وَرَعاً وتبتلاً، لا يجوز إلزام الناس بهما. فالمفتي لا يُلزِم الناس بما يُلزم به نفسه. كما أن هناك مسائل خلافية، لا يجوز البت فيها، وأطر الناس عليها. وكم كان بودي لو أن الفقهاء القنواتيين حين يُسْألون عن مسألة خلافية، أن يشيروا إلى ذلك. وليس هناك ما يمنع من سؤال المستفتي عن مذهبه، فإن كان مذهبه يرى ما لا يراه المفتي، فإن على المفتي أن يقر المستفتي على ما هو عليه، لأن المسألة لا تعدو أن تكون خلافية، وناتج اجتهاد، يراوح بين الفاضل والأفضل.
والمتصدرون للفكر المعاصر لا يجوز أن يكونوا طعَّانين، ولا لعَّانِين، ذلك أن المؤمن ليس بالطعان، ولا باللعان. وحين تكون المخالفة غير متعمدة، وليس حكمها قطعِيَّ الدلالةِ والثبوتِ، فإن تناولها لا يكون قاطعاً، بل على المتصدر أن يركن إلى لغة الاحتمالات، ليتيح الفرصة للطرف الآخر، كي يتَأَمَّل الموقف، ويجنح إلى الصواب بمحض إرادته، لا بقوة المتصدي.
لقد بَدَتْ في مشاهد الفكر معارك ضارية، اتسمت بالاتهامات الجائرة، وتضخيم الهفوات، والتيئيس من هداية المخالف، والجور في الحكم عليه. والمصداقية تتطلب الصدق والعدل، وحصر الخلاف في نطاقه، ذلك أن المفكر ربما تكون له إسهاماته التي لا يجوز المساس بها: و[كفى المرء نُبْلاً أن تُعَدَّ مَعَايِبُه].
لقد تصدى المرحوم [أنور الجندي] لعدد من المفكرين، وألف كتباً في تفنيد أخطائهم، وهو إذ يكون مُحِقاً، ومأجوراً، فيما ذهب إليه، إلا أنه بالغ وأسرف، وتعمد نسف قنوات الاتصال، ومن ثم قَلَّت الجدوى من تناولاته، واستقصاءاته القيمة.
ولنا أن نقول مثل ذلك بالنسبة لعدد من المفكرين الغيورين على حُرْمة الدين. نحن لا نعترض على المنقبين في أفكار الغير، ولكننا نود منهم الإنصاف، وحصر الجدل في نطاق الاختلاف، وعدم الإسهاب في التقليل من شأن المخالف.
فهل أحد ينكر أثر عمالقة الفكر المعاصر في مختلف حقول المعرفة؟ ومع ذلك لا يسلم أحد منهم من لوثة فكرية عارضة، تلقاها البعض، ونفخ فيها، حتى لم يعد هناك مجال لقبول سائر فكره.
والأسوأ من تضخيم الهفوات العارضة الافتراء، وإشاعة قالة السوء، والتحذير من مجمل إنتاج المفكر المتابع، واتهامه بتعمّد الضلال والتضليل.
نحن لا نختلف حول أهمية تنقية المشاهد الفكرية من أي مخالفة، ونعد مثل هذا التصدي من أوجب الواجبات. ولكننا مطالبون بالعدل، والرفق، والاحتواء، والمصداقية: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}.
الدين الإسلامي دين رفق وتأليف: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ استجَارَكَ فَأَجِرْهُ}، {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}.
فالعنف في الدفع مذمة، والدفع بالتي هي أحسن محمدة.
فهل يُحْسِن الغيورون إدارة الاختلاف، والتغلب على المخالف بحسن الخلق، وحسن العرض.
إن المشهد الفكري يتسم بالعنف، والاتهام، والإقصاء، ومصادرة الحق، واحتكار الحقيقة. وحجاجنا دائماً يؤدي إلى الفرقة، والنفرة، وإيغار الصدور، والترصد. مع أن المسائل المختلف حولها ربما لا تكون من القطعيات، ولا من الأولويات، وبالإمكان تأجيلها.
وتلك الأساليب المفضولة تؤدي في النهاية إلى تصديع الوحدة الفكرية للأمة، والإيغال في التعصب والتحزب، وتعدد الفئات، وتبادل الاتهامات. ومن ثم يكون الضرر أكبر من النفع.
وقواعد سد الذرائع، ودَرْء المفاسد، قد لا تُسْتَحضر في مثل هذه المشكلات.
إن فرقة الأمة، وتناحرها، وتمزيق لحمتها أخطر من جنحة ثاوية في كتاب. والفتنة نائمة، والمبعد من رحمة الله من يتعمد إيقاظها.
إننا لا نريد لِتَسامح الإسلام، وإشراقه، ورحمته أن تختطف، ولا أن يُحَرّف الكلام من بعد مواضعه، ولاسيما أن الأمة اليوم مستضعفة، ومنهكة، وواجبها تأجيل الصراع الداخلي، والنُّفُور إلى الثغور المكشوفة.
ولو أتقن علماؤنا، ومفكرونا فقه الواقع، والأولويات، والتمكين لكانوا خير أمة أخرجت للناس، فلنجنح إلى السّلْم، ولنتوكل على الله، كما أمرنا.