أجد نفسي أحيانا منجذباً للإصغاء لحسن نصر الله عندما يتكلم لأنه يشدني ليس بما يقول ولكن بكيفية قوله ما يقول، فهو دائماً يفصح، عن جهل طبعاً لا عن قصد، عن أكثر مما يقول. أي ينطق بأشياء كثيرة دون ما وعي. والسيد نصر الله، مثله مثل سائر كثير من ساسة العالم الثالث، شخص ذكي محدود الثقافة..
وليس له أي اطلاع عميق على أي ثقافة إنسانية تعمق فيه الفهم وتوسع له المدارك وتدفعه للتعاطف مع الآخرين من أجل إنسانيتهم وحقوقهم وليس قربهم من معتقداته أو أي أمور أخرى. فلا يعنيه أمر أكثر من مائة وخمسين ألفاً تم قتلهم في سوريا، ولا يهتم لثلاثة ملايين لاجئ سوري مشرد بعضهم موجود على بعد كيلوات معدودة من مخابئه في لبنان، ويرى فقط ما سماه قوى تكفيرية تقتل العلويين المستضعفين هم الجانب الآخر للصراع في سوريا، ألم يك نصر الله يدعي دائماً أنه نصير المستضعفين في غزة وغيرها؟!
يصف الغربيون الذكاء الجاهل، الذكاء المكتسب من السلوك والخبرة فقط، الذكاء الذي لا يصقله العلم ولا تجلوه الثقافة، «ذكاء شوارع». فذكي الشوارع يجيد الكر والفر وتقدير المخاطر وأساليب التحايل لأنه على احتكاك يومي بها، ولكنه لا يعرف كيف يفكر بشكل منهجي محايد. والسيد نصر الله من هذا النوع ذكي، متوقد الذهن، فصيح اللسان ضحل الثقافة، وثقافته ذات بعد واحد فقط. والشخصيات ذات الذكاء العملياتي المتوقد هي عادة محط اهتمام القيادات العليا وأجهزة الاستخبارات الخارجية، لأنها لا تفكر أبعد مما يوكل لها. ومعظم من أوصلتهم الاستخبارات الأمريكية لسدة الحكم في بلدان العالم الثالث هم من هذا النوع: نورييغا، ماركوس، القذافي، صالح، المالكي.. إلخ..
ويخاطب القادة من هذا الطراز عادة حشوداً متلقين ما بين منضبط ومضبوط مهمتهم الاستماع والتأمين على ما يقول، وإشعاره بشكل مباشر أن ما يقوله إلهام حقيقي عبقري. فلا أحد يستطيع الاعتراض أو التساؤل أو حتى عدم هز الرأس والتصفيق مؤيدًا. ثم يظهر جيش من الأذكياء والمثقفين يعيدون تفسير الكلام وتلميعه والأهم ترقيع ما يمكن ترقيعه. فيكتسب القائد تدريجياً ثقة كبيرة في النفس تجعله يتلو أفكاره وكأنها حقائق منزلة، وتنعكس هذه الثقة على مصداقية كلامه فيبدو أكثر مصداقية مما هو في الواقع. وقضية إعدام الرئيس الكوري الشمالي «كيم يونج أون» لعمه لعدم تصفيقه له بالحماس المطلوب توضح المقصود بالحشد المنضبط.
تستمر الخطابات وتتوالى ويبدأ أثر الخطابات الانعكاسي باعتقاد القائد فعلاً بأنه ملهم، وأن الحشود تصدقه حقيقة وأنه فعلاً عبقري استثنائي، فيوعز بجمع خطبه، وإبراز كلماته وقد ينتهي به الأمر لكتابة كتب إرشادية ملهمة للأمة على وزن: الكتاب الأحمر لماوتسي دونج، أو الأخضر للقذافي، أو كفاحي لهتلر. ولذا لا يستبعد أن يظهر علينا كتب عن ملهمات مقاومة السيد عما قريب.
لكن هذا النوع من القادة ما يلبث أن يفصح فجأة وبشكل لا إرادي عن جهله دون علمه، لأن الجهل يتحين أقرب الفرص للإفصاح عن نفسه. فالجاهل يجهل حدود ما يتكلم عنه، وتخفى عليه أبعاد كثيرة لرؤية الأمور. ولأنه لا يعرف أن للكلام ظلال كثيرة يعد السكوت فيها ذا مغزى كبير، فإنه قد ينطق بغير ما يقصد. والسيد حسن أطل مؤخراً ليتكلم في تأبين علي القصير، موحيًا لمستمعيه أن المناسبة كانت للتأبين فقط ولا علاقة له بتوقيت الانتخابات السورية مطلقاً، أو بإعلان دعم بشار في مسعاه لتثبيت سلطته، فالأصل هو التأبين والعرضي هو الانتخابات، فالسيد لا يطل على الناس إلا في المناسبات النبيلة فقط!!
لكن كلام السيد عن التأبين كان ضعيفاً ومشتتاً، وكان واضحاً أن ذهن السيد يقلب مواضيع أخرى يستعد لذكرها، وعلى عكس الكلام التأبيني المرتبك المهلهل، جاء الخطاب السياسي عن الانتخابات السورية مركزاً ومباشراً. فقد بدأ كلامه عن الانتخابات بقوله: الثمرة الكبيرة التي تترتب على الانتخابات (السورية) هي التالية: الذي يريد أن يعمل حلاً سياسيًا في سوريا لا يمكن أن يتجاهل الانتخابات الرئاسية التي حصلت، الانتخابات التي أتت بالدكتور بشار الأسد رئيساً لولاية رئاسية جديدة». وهنا يتضح حرص السيد على تدبيج اسم بشار بالدكتور قبل لقب الرئيس، فالدكتور يمكن أن يكون أي شيء آخر إلا جزار.
وما أبان عنه حسن نصر الله هو أن هناك استعدادت حثيثة في معسكر دعم بشار لأي عملية سلمية متوقعة تدعو لها الأمم المتحدة، وأن روسيا، وإيران والأسد كانوا يعرفون سلفاً أن الجميع سيتجاهل ويرفض الانتخابات السورية لأنها لا يمكن أن تكون شرعية في الظروف التي تمت فيها. بل وذهب إلى أبعد من ذلك بالإفصاح عن أن الانتخابات أتت استعدادًا للتمسك بحافظ الأسد في السلطة لأنهم يعلمون برفض الجميع استمراره فيما عدى روسيا وإيران، فهو لا يمكن أن يكون طرفاً مقبولاً بعد القتل والدمار الذي أحدثه في البلاد. ثم كيف «تأتي» الانتخابات بالرئيس بشار وقد دمر نصف سوريا متمسكاً بالسلطة، أي أنه لم يخرج مطلقاً منها!!، لكن الانتخابات حسب نصر الله أتت لاستباق اشتراط استقالة الرئيس في أي محادثات قادمة فلا يمكن وضع أي شروط في المفاوضات تفضي إلى استقالة الرئيس. فبقاء الأسد هو الشرط الاستباقي لأي محادثات قادمة: الانتخابات تقول للدول العالمية والإقليمية وللمعارضة السورية إن الحل السياسي في سوريا يبدأ وينتهي مع الرئيس بشار الأسد».
ثم دعا نصر الله ما أسماها «القوى التكفيرية» التفاوض مع النظام السوري «الوطني، القومي، المقاوم»، وهذه العبارات الأخيرة هي ما يردده أمثال حسن نصر الله من الأذكياء الجهلة باعتقاد أن الناس يصدقونهم، فكيف يا ترى يكون النظام السوري وطنياً وقد أحرق نصف الوطن السوري وحوله لركام؟ وكيف يكون وطنياً من يستخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه؟ فالوطنية عبارة يرددها أمثال نصر الله دون اكتراث بما تعني. والغريب أن نصر الله يتكلم عن القومية وكأنما إيران، والولي الفقيه هم قادة أركان القومية العربية، أما عبارة المقاومة فلم يعد حتى بعض المقربين منه يصدقون بها. فلو كان هو والأسد في طور مقاومة لانقضت عليهم إسرائيل في انشغالهم بحرب الجيش الحر في سوريا. ولكن إسرائيل زادت قواتها على حدودها الشمالية بعد ترك حزب الله لمهمته بحراستها، ولم تسمح إسرائيل لدمشق بالطيران الحربي فوق حمص والقنيطرة من قبل ولو للاستطلاع بينما تسرح الطائرات السورية وتمرح اليوم بالقرب من الحدود الإسرائيلية.
فما أفصح عنه نصر الله هو شروط المفاوضات القادمة للأزمة السورية، وفيه مبادرة إجهاضية استباقية لأي جهود دولية قد تلوح في أفق هذه الأزمة المسدود. وهنا يتضح للجميع أن الحسم مع معسكر نصر الله وإيران في سوريا لا يمكن أن يكون إلا عسكريا. ويتوقع كثير من المحليين أن إيران وسوريا ونصر الله باتوا على يقين بأن أمريكا لن تقدم على أيه خطوة لحسم الصراع على الأرض، فالأخيرة تعتقد في النهاية أن استمرار الصراع الشيعي السني في المنطقة هو ما تسعى إليه أو ربما خططت له، وأنها قد أرسلت تأكيدات بعدم تدخلها للمعسكر الذي يتبعه نصر الله بهذا الشأن. بل وربما تكون أمريكا مهدت لصراع كهذا قبل مغادرتها العراق في يد إيران. فأمريكا تسعى بشكل واضح لإضعاف المنطقة برمتها بإذكاء الصراعات فيها تمهيداً لتسويتها نهائياً بالشكل الذي تراه عبر القوة الباقية التي لم تمس: إسرائيل. وليس علينا أن نقلق من إسرائيل ما دام نصر الله يعدنا بمقاومتها، وكما يقال: شر البلية ما يضحك.