كثير من أمور التحديث لدينا تسبب لنا نوعاً من القلق وعدم الراحة التي نحس بها ولا نعرف بالضبط سببها. فمعظمها أتت بها طفرات النفط المتلاحقة على شكل منتجات حضارية عالمية حددنا موقعنا منها بصورة مسبقة. فالاعتقاد السائد لدينا هو أن كل ما نحتاجه من العالم المتطور من حولنا هي الجوانب المادية فقط، أما الجوانب الأخرى كالجوانب
الفكرية والثقافية فهي زائدة ولا نحتاجها، ولذا كان شعارنا نقل التكنولوجيا مع الحفاظ على الهوية، دونما تعريف أو تحديد لماهية هذه الهوية.
شعار رائع لو كان ممكناً فعلاً، ولكن خبراء أمور التحديث يعرفون غير ذلك، فاستيراد التحديث المادي لا بد وأن يلحقه تحديث فكري يسهّل التأقلم والتعايش معه ويخفف من الاغتراب عنه، ولو لحظنا اختلاف أجيالنا الجديدة عمن سبقها لعرفنا تأثير هذا التحديث، ولكن الأخطر يكمن في أن نصاب برهاب التحديث ونحاول الهرب منه في سلوكيات هي أقرب للانفصام الاجتماعي منها بالتأقلم والتطور. فلو أخذنا مثلاً ما استوردناه من وسائل التقنية والراحة كالسيارات، والبيوت المتنقلة، والوسائل المتعددة لحفظ الماء والأطعمة، ووسائل التدفئة وغيرها التي يفترض بها أن تعوضنا عما كنا نقتطعه من بيئتنا فإن ذلك كان جديراً بتنمية البيئة والحفاظ عليها، فالعقل الذي أنتج السيارة والمدفأة هو ذاتها الذي أنتج ثقافة الحفاظ على نظافة البيئة وسلامتها، ولكننا أخذنا الجانب المادي فقط ومنعنا الثقافي فوظفنا التقنيات الحديثة في دمار بيئتنا، فاستيراد المشاريع أسهل بكثير من رفع الوعي والمستوى الثقافي لدى العامة.
وكذلك فنحن لا نستطيع مثلاً أن نستورد أحدث الخبرات الطبية، والمختبرات والمجاهر الإليكترونية في العالم التي بها نرى أدق الكائنات المسببة للأمراض ثم نرشد الناس لأساليب طبية تقليدية تعتمد على العلاج بمخلفات الحيوانات التي تنقل المرض. والأمر لا يتعلق بمجال الطب فقط ولكن كافة جوانب الحياة الأخرى، فمقولة أن كل موروث يجب الحفاظ عليه مقولة بها الكثير من التعميم المخل، وجوانب كثيرة من موروثنا الثقافي تحتاج على أقل تقدير للتطوير لتتواءم مع معطيات العصر حتى لا يندثر. فما زال بعض منا يعتقد أن تملكنا لموارد حياة ضخمة، وامتلاء موانئنا بالبضائع الاستهلاكية، ووفود ملايين البشر من أصقاع مختلفة من الأرض لخدمتنا هو الناموس الطبيعي لهذا الكون، وليس حدثاً تاريخيًا استثنائيا فرضه تحول العالم في حقبة من تطوره لطاقة كربونية اكتشف لدينا كميات كبيرة منها.
ولا شك أننا قد نجحنا كثيراً في الحفاظ على جزء كبير من ثقافتنا المحلية من أن يجرفها تيار التحديث ولكننا حافظنا عليها أيضاً من التطوير والتحديث، فكان هذا التعايش المقلق بين تكنولوجيا القرن الواحد والعشرين وبعض العقليات والعادات التي لا تنتمي له مطلقاً وليس لديها أدنى استعداد للتأقلم معه، وتصر من واقع الغرق في إدمان استهلاك منتجات الحاضر على أنها تنتمي للماضي. والإسراف في الاستهلاك، والتوسع السريع في العمران عجل باختفاء الإنجازات التاريخية المادية لثقافتنا التقليدية: العمارة التقليدية، أدوات معيشتنا، وسائل تنقلنا ولم تبق لنا إلا الجوانب غير المادية من عادات وتقاليد فازددنا تمسكا وتعلقا بها مما وسع الفجوة بيننا وبين عالمنا المادي المستورد.
ومشكلتنا اليوم مع الكورونا هي بالأساس ثقافية وتتعلق بالوضع النفسي الاجتماعي العام لدينا، تساهلنا في حصار المرض، واعتقدنا أن الوقت كفيل بتخليصنا منه مع أن الأبحاث تشير بأن الفيروس موجود من التسعينيات في عينات مفحوصة من الإبل موجودة لدى الهيئة الفطرية لحماية البيئة. وهذه هي بالضبط الفترة التي شهدت حمى الهوس بإحياء الموروث الشعبي بعيد الطفرة الأولى التي أوصلت كثيرا منا، مع تدني ثقافتهم، لمستويات متفاوتة من الثراء لا يحلم بها من اخترعوا التقنيات الحديثة أنفسهم. فظهر الولع بتربية الإبل، والمزاين وغيرها من أمور ثقافة كجزء من نوستالجيا العودة للماضي، فالبعض ممن وصل لدرجة التشبع والملل من وسائل العيش الحديثة التي وفرها له المال هرب للماضي بحثاً عن السعادة باستدعاء بعض مظاهره كالقبلية، والكرم المفرط، وأساليب التداوي القديمة، وامتلاك قطعان الإبل، والمزارع إلخ.
ثقافتنا الصحية اليوم، إلم تكن متناقضة فهي غير واضحة، فرغم تمسك الكثير منا بضرورة العودة للماضي مهما كلف الثمن إلا أنه لا يتحمل ذلك فيما لو كان فيه تناقض كبير مع ما توفره له الطفرة من وفرة. فقد قال الله جل وعلى: «وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين»، الأعراف؛ ويمكن أن نقيس على ذلك: واسكنوا، واركبوا، وانكحوا، وتملكوا الأنعام ولا تسرفوا أيضا. وللرسول عليه أفضل الصلاة والسلام حديث ينهى فيه بشكل قطعي عن الإسراف في الأكل لأسباب صحية: «ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه»، والإسراف في الأكل أحد أهم مصادر الأدواء حسب الطب الحديث، وقد وضع أحد أكبر مستشفيات برلين هذا الحديث لوحة بارزة على بابه. ولكن يأتيك من لديه استعداد بأن ينصحك بكل شيء دون أن يضرب لك مثلاً واحداً في عدم الإسراف في أي شيء، فهو يسن لنفسه قدوة في عثمان في الثراء، ولكنه لا يقتدي به قيد أنملة في الإنفاق على الخير. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: إذا سمِعتم بالطاعون بأرضٍ، فلا تدخلوها، وإذا وقَع بأرضٍ وأنتم فيها، فلا تَخرجوا منها».
لكننا، ورغم أننا نعيش في عصر تقدم فيه الطب، وأصبحنا نعرف عن الأمراض والأوبئة أكثر من أي وقت مضى ولازلنا نتعامل مع المرض في كثير من أمورنا حسب عاداتنا لا حسب ما يسره الله لنا من علم وحقائق. فلا زال منا من يتعمد إخفاء مرض قريبه عمن حوله، وإذا سألته عن سبب سفره للخارج يقال: إنها مجرد فحوصات، وهو ربما يكون مصاباً بمرضٍ معدٍ خطير، يتطلب فحص كل من حوله. ولا زلنا نعتمد أساليب بدائية أيضا في البحث عن الدواء كأن نعتقد أن المريض مصاب بعين فنتحايل أقاربه ومعارفه للتسبب له من لعابهم فننقل له أمراضا أسوأ مما فيه. ولا زال من يصاب بأعراض معينة كالرشح أو السعال يخالط الناس ويصافحهم غير مكترث بنقل العدوى لديهم، وفي تجمعاتنا في الأفراح أو الأتراح وحتى لو كنا في ظروف انتشار فيروس خطير لا بد من مصافحة وتقبيل كل من تقابلهم.
وما أن ينتشر مرض أو عارض ما حتى تبدأ عملية المتاجرة بعلاجه من أناس يستغلون إيمان العامة وانتشار التدين بينهم ليبيعوهم أوهاما علاجية بوصفات شعبية لم يثبت العلم الحديث أي قيمة علاجية لها مستغلين بذلك محبة الناس للرسول. فهل يعقل أنه في الوقت ألذي تثبت المجاهر الإليكترونية وجود فيروس خطر كالكورونا في الإبل أن يظهر من لا علم له بالطب ويدعو للتطبب بمخلفاتها؟ فالقدوة في الرسول لا تكون في ترديد أحاديث ضعيفة عنه قد تكون وردت في بعض الأسانيد، ولكن في الاقتداء بسلوكه ومبدئه في حرصه على السلامة الصحية للمسلمين بما أتيح له من معرفة، فعلينا حث الناس بالأخذ بالأسباب التي تتاح لنا اليوم وليس الأمس.
وإذا كنا نعرف أن فيروسا مميتا كالكورونا يهدد مجتمعنا فلا بد من أخذ بأسباب الوقاية منه، ويجب عدم الحياء من ذكر الإصابة به، ولو بدت على أحد من المسلمين أعراض مشابهة لأعراض المرض، أو ثبت أنه يحمل الفيروس دون الإصابة به فعليه أن يعتزل أماكن تجمع المسلمين المغلقة بما في ذلك المساجد، فالسعال في مسجد مكتظ بالمصلين قد ينقل المرض لهم، أو قد ينتقل لمسلم آخر عبر سجاد المسجد. والرسول أمر من أكل البصل والثوم أن يعتزل المسجد فمابالكم بمن ينقل فيروسا مميتا؟! ولو تعاون آمة المساجد مع الأوساط الطبية في توعية الناس وحثهم على اتباع توصيات وزارة الصحة في حصار هذا المرض الخطير لكان في ذلك اتباع لشريعة الله وسنة رسوله في ضرورة الحفاظ على النفس البشرية.