Tuesday 27/05/2014 Issue 15216 الثلاثاء 28 رجب 1435 العدد
27-05-2014

مُعان يا سمو الوزير!

صاحب السمو الأمير خالد الفيصل، الجميع يعرفكم شخصية كارزمية قلما تجود الأيام بمثلها، فأنتم مجموعة شخصيات في شخص واحد: أمير، ومدير، ووزير، وخطيب، وفنان، وشاعر. إذا حضرتم حضرت البلاغة وإذا حاورتم حضر الإقناع، وإذا تخيلتم حضر الإبداع. مروركم أينما حللتم لم يكن قط مرور الكرام، تستهلون الصعب،

وتعشقون الصعاب. واليوم أنتم أمام مهمة من أصعب المهام وأنبلها ألا وهي تطوير التعليم العام. وكأني أخال خادم الحرمين الشريفين أطال الله في عمره عندما عرضتم عليه ميزانية إصلاح التعليم 80 مليار يقول لكم، لك ما أردت ولا عذر لك بعده.

التعليم العام يا سمو الأمير عتبة الوطن الأولى للرقي بالوطن إلى مصاف الدول المتقدمة علمًا واقتصادًا، وتنظيمًا، وقد أتعب إصلاحه قبلك رجال مخلصين كثر. عجز بعضهم عن فك شفراته المعقدة واستعصت مفاتيحه على البعض الآخر، فهو أشبه بالثقوب السوداء في الفضاء تلتهم كل شيء ولا يرى منها أي شيء. سلفك يا سمو الأمير قدم له خادم الحرمين الشريفين ضعف ما قدم لك، وضع بين يديه 160 مليارا، وكان أميراً تنويرياً مثلكم، يجمعكم به حب الوطن وحسن الثقافة، ورهافة الإحساس. كان إنسانا ذواقًا حساساً، وتصدى للتعليم متحدياً رغبة في التطوير وخدمة الوطن، بل إن حرمه، كريمة خادم الحرمين الشريفين، كانت تشاطره الهم ذاته، وربما قدمت له الدعم المعنوي الذي يحتاجه من يقدم على مهام جسام، فهي لا تترك مناسبة علمية نسوية إلا وشملتها برعايتها، ولم ترع مناسبة إلا دعمتها وساهمت في إنجاحها، لكن الآمال لا تلبث أن تتلاشى بعد معرفة جسامة الصعاب وتعقيد المهام، فتعليمنا لا يخضع للمعايير التربوية التي تطورها العالم وحدها والتي تخضع لها بقية الدول فتبحثها وتخطط لها، بل سترون تقاطعه وتعاكسه مع أمور كثيرة بعضها يتعارض معه أصول التربية ذاتها, وهي العقبات الكبرى التي وقفت أمام كل من يحاول الإصلاح وولدت لديهم اليأس وجعلتهم ويترجلون من عتبات الإصلاح الأولى.

سلفكم يا سمو الأمير اكتشف الواقع المرير، وهو أن قطار تعليمنا العام وإن بدا مبتسما كقطار توماس الذي يدخل السرور في قلب الأطفال اليفّع، إلا أنه قطار ضخم صدئ من الداخل، تروسه تتحرك في اتجاهات متضاربة، و يحتاج لمعجزات لدفعه للسير للأمام وإذا تحرك خطوة للأمام اتبعهتا خطوتان للخلف. فالتروس الداخلية الضخمة لهذا القطار المتقادم تتصادم وتتلاطم وتحدث دويا يصم آذان من يقترب منها إلا أنها لا تتحرك. وكلي ثقة أن سلفكم لا زال يعاني من دوار هذا الدوي بعدما ترجل وهو على قناعة أن المال ليس العامل الوحيد لتحقيق الآمال.

سمو الأمير، أعانكم الله على التحديات الجسام أمامكم، فالتعليم لدينا لا يرتبط بالعلم فقط بل يتعلق بأمور أخرى جميعنا يعرفها، فهو حلبة صراع لقوى مختلفة تحاول اختطاف النشء باكراً للوجه التي تراها بصرف النظر عن سلامة الاتجاه التي تأخذه إليه، ولذا بقي تعليما لأجيال بلا وجهة محددة ولم تطل جميع عمليات إصلاحه إلا القشور والأمور السطحية فقط فتركه كل من مر عليه نهبة للحشو والتلقين لأنه اقتنع أن صلاح الحال من المحال. تجاوزتنا السنون، وأضعنا الوقت النفيس والمال الكثير ولم نحصل على مبتغانا.

سمو الأمير ما شاهدناه مؤخراً من تمزيق للكتب المدرسية أو تحطيم للفصول الدراسية ليس أمراً عرضياً بل هو تعبير عن الانفصام العاطفي التام بين المدرسة والنشء، وهذا الانفصام لا يقتصر على بعض الطلاب فقط بل يشمل بعض المدرسين والمدراء والوكلاء أيضاً الذين ما تلوح شمس إجازة في أفق العام الدراسي إلا ويمارسون أساليب إبداعية ابتكارية من تنفير طلابهم من الانضباط، والإيعاز لهم بالغياب، بل الطرد أحياناً قبل الإجازة بأسبوع على الأقل وبعدها بأسبوع آخر، فإذا كانت الإجازة أسبوعاً استحالت لثلاثة أسابيع، وإذا كان شهراً تحولت لشهرين، وهذه خصوصية ننفرد بها في نظامنا التعليمي. فإذا كان هذا هو مدى احترام بعض مدراء مدارسنا لمهنتهم وللأسف فبما نلوم الطلاب؟ ورغم إقرار الدولة لكادر ممتاز لسلك التعليم العام إلا أن إبداع بعض مسئولية يتجلى في مهنهم الأخرى، أو وفي مدارسهم الرديفة التي يديرونها بصرف النظر عن تضارب المصالح. فكيف ينجح في إدارة التعليم من يرى مصلحته في خروج الطلاب منه؟! وقد قال الله في محكم كتابه مخاطب الأنبياء والرسل: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، وعلى سموكم أن تتخيل فقط مهمة إقناع أناس أدمنوا أمورا واعتادوا عليها لسنوات أن يغيروا ما بأنفسهم! فالمال ليس هو آخر المآل، والعلاج لا بد أن يكون جذرياً وربما موجعاً إذا ما أردتم فعلاً تحريك هذا القطار الجاثم من عقود.

سمو الأمير، عندما أنفق سلفكم الكريم بسخاء على التعليم من قبيل التشجيع والتحفيز، شاهدنا عاصفة حركية في المكان ذاته، مؤتمرات، ندوات، انتدابات، تدشينات، حفلات، ورشات، وسمعنا ضجيج كبيراً، والمحصلة أتينا بشركات عالمية لتغير أغلفة الكتب المدرسية فقط، أما المحتوى الحقيقي فبقي قابعاً في الماضي ومارس حركته المعتادة بشكل جانبي أفقي. فالنشء ما زال يحمل من الكتب ما يعجز عموده الفقرى على تحمله، وما زال يفرض عليه أن يحفظ عن ظهر قلب أحكام لا مناسبة لها بعمره أو سنه في وقت كان يفترض به أن يلعب ليتعلم، وأن يتعلم ليتنظم. وما نشاهده سموكم في حياتنا من فوضى وارتباك وتجاوز وعدم احترم لأي نظام أو تنظيم، هو نتاج الفوضى التي يتعودها النشء في التعليم العام، أو نتيجة الانضباط بالقمع لا الاحترام.

سمو الأمير اطلع الكثير من أولياء أمور الطلاب على بعض المؤهلات التي حصل عليها بعض مسئولي التعليم، وهم على رأس العمل وللأسف، أي في الوقت الذي يفترض بهم أن يكونوا قدوة ليس لطلابهم فحسب بل وللمجتمع ككل فصدموا باكتشاف أن كثير منها مؤهلات وهمية وشبه وهمية، وقد سبق للوزارة أن اقتبست كثير من الأبحاث من دول مجاورة غيرت عناوينها فقط للحصول على الدعم البحثي السخي الذي أتيح لها، وتحولت وجهة بعض دورات إعادة التأهيل لبعض المدراء الموقرين لمنتجع يحمل اسم جامعة بريطانية عريقة يديره رجل أعمال عربي ويسوقه وكيل له سعودي، استجمام باسم دورة تصرف عليها الألوف المؤلفة. ولا يخفى عليكم أن بعض مسئولي التعليم لدينا طفقوا لليابان، وكوريا، وسنغافورة، وكندا وغيرها بحثا عن فهم أصول التعليم لديهم ونسوا فهم أبسط أصول التعليم لدينا.

إصلاح التعليم ليس عملية سحرية، ونحن لا نعيد اختراع العجلة، وعقولنا ليس لها خصوصية عن عقول الشعب الأخرى، ولدينا من التربويين المتخصصين من يمتلك مؤهلات من هم في كوريا واليابان وغيرها، وجامعاتنا مكتنزة بهم ولكننا بحثنا في كل مكان و تجاوزناهم، وبعض من تم الاستعانة به بقيت توصياته العلمية حبيسة الأدراج لأننا أصرينا دائمًا على النظر في اتجاه معين حتى ولو تناقض ذلك مع أبسط مبادئ التربية، وهنا يا سمو الأمير مربط الفرس. ولا داعي للحديث عن الانفصام الملحوظ بين جانبي التعليم العام والعالي، انفصام وهمي مجازي وأنتم خير من يعلم ذلك، فالتعليم الوطني كل واحد مستمر والتقسيم إجرائي إداري، وكل منهم بحاجة ماسة لمساعدة الآخر. فما تخرجه الثانويات يشق طريقه للجامعات، وما تخرجه الجامعات تتلقفه الثانويات، ولذا فلتكن الجامعات والبحث العلمي، البحث العلمي الحقيقي هي سبيلكم للتطوير، وإلا فإن قطار التعليم لن يتحرك، وإن تحرك فقد يتحرك في أي اتجاه غير الاتجاه المطلوب. وأنتم يا سمو الأمير تعرفون أن العالم يتحرك من حولنا بسرعة الضوء ونحن لا زلنا نحشو تعليمنا بأمور هي أقرب للأدلجة منها للتعليم.

سمو الأمير، نجاحكم في إصلاح التعليم العام، مهما كلف! سيكون أجمل قصيدة وطنية تبدعها قريحتكم، وستحلقون بها وبوطنكم، الذي طالما تغزلتم بجماله، فوق هام أعلى السحب. ولا أحتاج أن أذكركم بأن جميع أبصار المواطنين تشخص لكم، فأنتم في نظرهم القوي الأمين، والأمانة التي أوكلت لكم أكثر الأمانات نبل ورقي. ووفقكم الله وسدد خطاكم فيما أنتم مقدمون عليه.

latifmohammed@hotmail.com

Twitter @drmalabdullatif- أستاذ في جامعة الملك سعود

مقالات أخرى للكاتب