دراسة التركيبة السكانية لمجتمع أحد أهم المحددات الرئيسية لمعرفة طبيعة المجتمع، احتياجاته، نموه، استقراره.
ويرى خبراء هذا المجال أنها مؤشر رئيس على طبيعة استقراره والصراعات التي تدور فيه. وقد بدأ الاهتمام بالدراسات السكانية وعلاقتها بالصراعات منذ زمن بعيد..
.. فقبل ثلاثة قرون كتب العالم البريطاني توماس مالتوس مقالاته الشهيرة عن أن النمو السكاني للأرض يفوق تطور موارد الأرض الغذائية، مما سبب الصراعات المختلفة حول هذه الموارد.
ونظر مالتوس إلى الحروب والأمراض والمجاعات على أنها أسلوب الطبيعة لإعادة التوازن بين سكانها ومواردها، أي التخلص من الزائد من السكان. ومنذ ذلك الحين وهناك تحذيرات مستمرة من النمو السكاني غير المنضبط.
وظهرت في التسعينيات من القرن السابق، نظريات جديدة وأكثر تحديداً حول أسباب القلاقل، والصراعات، والجرائم بما فيها الإرهاب، والصراعات المذهبية في المجتمعات، وهذه النظريات للأسف لا تعطى حقها من الاهتمام ممن يرسمون الخطط التنموية في عامنا على الرغم من أهميتها القصوى للاستقرار.
ومن أهم هذه النظريات نظرية الانبعاج الشبابي Youth Bulge ويمكن ترجمتها أيضاً بالفقاعة الشبابية، وهي نظرية تستند لدراسات وإحصاءات سكانية تاريخية وآنية، ولدراسات اجتماعية لجميع مجتمعات الأرض عبر مختلف حقبات تاريخها ومختلف ثقافاتها.
وتنظر هذه النظرية للمجتمع على أنه سلم سكاني مقسوم لقسمين متساويين؛ أحدهما نسوي والآخر ذكوري، وأن هناك توازناً ضرورياً بين قاعدة الهرم وقمته: الأولى تمثل المواليد والأخيرة تعني الوفيات.
وتفترض هذه النظرية توازناً في المجتمع بين الولادات والوفيات، فمعدل ولدين في الأسرة، مثلاً، هو التطور الطبيعي للمجتمع بحيث يحتل أحدهما مكان الأب مستقبلاً والآخر مكان الأم، ولكن إذا كانت الأسرة في المجتمع تلد بمعدل ثمانية أطفال فلا بد أن تحسب الدولة حساب إضافة ست وظائف جديدة لكل أسرة في الجيل القادم، وإذا استمر الحال على هذا المنوال يحدث تضخم لفئة الشباب على شكل انبعاج في الهرم المجتمعي غير متناسب مع توازنه، وتبدأ المشاكل الاجتماعية بالظهور عندما يزيد عدد الشباب بشكل كبير عن الوظائف وفرص العمل المتاحة لهم. ولا تعني فرص العمل هنا توافر أي عمل أي ما يقابل البطالة، ولكنها أيضاً تعني توافر فرص وظيفية مجدية يقبل بها الشباب، ويتطلع لها، وظائف غير الوظائف متدنية الدخل التي تسمى Underemployment وتصنف كنوع من البطالة لأنها وظائف وقتية ولا تحل الأزمات ولا تمنح الشباب الرضى عن حاضرهم أو الاطمئنان لمستقبلهم.
وقد درس العلماء جميع فترات عدم الاستقرار والحروب في التاريخ بدءاً من الثورة الفرنسية، مروراً، بالاستعمار والحروب العالمية، وانتهاءً بدارفور وقرصنة الصومال، ووجدوا أن هناك تضخماً سكانياً شبابياً يسبق جميع هذه القلاقل يتفاقم وينفجر.
ويقدر عمر الشباب بسن ما بين 15 و24، وهذه الفئة هي أكثر فئات المجتمع اندفاعاً ونشاطاً وهم وقود الحروب والجرائم والقلائل، وهم إضافة لذلك الأكثر عرضة للبطالة، وكلما تردى وضعهم الاجتماعي سهل تجنيدهم، وانخفضت كلفته.
واتضح من دراسات أجريت أن الشباب يشكلون نسبة ثلاثة أرباع الجرائم، وأعضاء العصابات.
ويلاحظ من الإحصاءات السكانية المعاصرة أن التزايد السكاني غير المنضبط يكون في البلدان ذات الدخل الضعيف إذ تشكل نسبته 70% من النمو السكاني العالمي، وجزء كبير منه في أفريقيا والشرق الأوسط، ولا يقابل هذا النمو السكاني المفرط نمو مكافئ في الإمكانيات الاقتصادية. بينما يحدث العكس في العالم المتقدم، حيث يوصف بعضها بمجتمعات الشيخوخة لزيادة نسبة الشيوخ على الشباب.
وتتم في عالم اليوم عولمة أنماط الاستهلاك تفرضها الدول الميسورة الحال، وينقل الإعلام الرقمي والتلفزيون الفضائي أنماط الاستهلاك لكل بيت وقرية في مختلف أصقاع الأرض، ولذا فشباب اليوم أكثر تحفزاً للتغيير من ذي قبل. كما ونلاحظ اليوم انتقال الشباب من بلد لآخر، وخاصة للبلدان التي يعتقدون بتوافر المستهلكات وفرص العمل بها، ويحدث ذلك إما بشكل شرعي كعمالة رخيصة، أو غير شرعي كالهجرة غير الشرعية. وهناك بلدان فقيرة كثيفة السكان تصدر شبابها القادر على العمل لبلدان أخرى، أي تنفس انبعاجها الشبابي للخارج.
وعندما تصل الحكومات إلى مرحلة اليأس من استثمار هذا الشباب في مشاريع منتجة تضيف لهم وظائف فإنها عادة تجندهم كعسكريين مقابل مرتبات متواضعة لضرب عصفورين بحجر علاج بطالتهم وتقوية دفاعاتها، ومع تضخم الجيوش بشكل كبير تنفتح الشهية للحروب ويتحمس لها الشباب. وهذا ما حدث في أمريكا قبيل حرب فيتنام، وفي ألمانيا النازية، وفي العراق قبل غزو الكويت، ويحدث في عالمنا اليوم حيث تشكل الحرب مصدر رزق لبعض جماعات المرتزقة.
ولم يكن مالتوس بعيداً عن الحقيقة كلياً فضحايا الحرب العالمية الثانية فقط في أوروبا كان ما بين 60 و85 مليون نسمة معظمهم من الشباب القادر على حمل السلاح، وسقط في روسيا وحدها ما يقارب 27 مليون نسمة في حربها مع ألمانيا، أما ألمانيا ذاتها فقد فقدت 30% في المئة من سكانها معظمهم شباب, وربما يكون ذلك سبباً في استقرار هذه الدول فيما بعد الحرب، إذ بدأت هذه الدول على موازنة نموها السكاني والتحكم في نسبة المواليد، أي أن الحروب كانت بمثابة الريجيم الوطني الذي أعاد لهذه البلدان رشاقتها واستقرارها.
وقد كتب دانيل قراف من جامعة جورج واشنطن مقالاً عن «التضخم في عالمنا العربي وعلى وجه الخصوص في مصر ودعمه بإحصاءات مدهشة ومقلقة في الوقت ذاته. فمنطقتنا ومنطقة أفريقيا هي أسرع مناطق النمو السكاني غير المنضبط، وهي كذلك أقلها معدلات نمو اقتصادي، فعدد سكان الشرق الأوسط في مجمله كان يقارب 60 مليوناً في عام 1950م، وقد بلغ في عام 2005م، 271 مليوناً، أي تضاعف أكثر من ثلاث مرات، ولكن الناتج المحلي لدول الشرق الوسط لم ينمُ بالوتيرة ذاتها، ونسبة الشباب في منطقتنا تفوق 50% معظمهم من المتعلمين.
وقد رافق هذه الطفرة السكانية زحف الشباب نحو المدن الكبرى والمراكز الحضرية، ومع ذلك فنسبة البطالة بين الشباب هي الأعلى في المنطقة.
ويعزو قراف ظهور الربيع العربي، ونمو الإرهاب، وانتشار الجرائم في منطقتنا إلى تفاقم هذه الظاهرة، فمع مقاربة نسبة البطالة الحقيقة في مصر 10%، واقتصار التوظيف في معظمه على التوظيف المتدني، ومع ترهل الحكم في عهد الرئيس مبارك لثلاثين عاماً وعجز الاقتصاد عن توفير الفرص الوظيفية لهذه الفئة وانتشار التذمر، عجل ذلك بمشاركتهم في عدم الاستقرار وظهور ما يسمى بالربيع العربي.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فالباحثون يرون أن انتشار عدم الاستقرار في الدول العربية والإسلامية وظهور أعداد كبيرة مما يسمى بالإرهابيين فيها مرده لهذه الظاهرة أيضاً.
لا شك في أن هناك دروساً مستفادة في هذه الدراسات، وأموراً يجب أن نعيها قبل أن تتفاقم، فوجود نسبة من العاطلين بين الشباب ليس أمراً صحياً لمجتمعنا، وربما يكون أحد مسببات انخراط شبابنا في العنف والإرهاب والجريمة، ووجود 11 مليون عامل وافد بيننا هو بلا شك عامل استقرار للدول التي ترسلهم لنا وليس لنا. ولكننا وللأسف لم نستفِد من مثل هذه الدراسات سواء على مستوى التخطيط أو مستوى التوظيف، وما زال قطاعنا الخاص مع كل الأسف لا يعي دوره الحيوي في الحفاظ على استقرار البلاد، وأهمية هذا الاستقرار للقطاع الخاص ذاته، وما زلنا ندور حول حمى التوظيف ببرامج تحفيز ضعيفة ولم نتخذ حلولاً جذرية لعلاج توظيف الشباب المتنامي بسرعة لدينا، مع العلم أنه نتيجة لارتفاع نسبة التعليم لدينا توجد فرصة حقيقية لموازنة النمو الديموغرافي مع النمو الاقتصادي المتوقع، فهذا ضروري لحفظ أمننا واستقرارنا. حفظ الله بلادنا من كل مكروه.