أعفي وزير الصحة الدكتور عبدالله الربيعة من منصبه بعدما تولى الوزارة لمدة تزيد عن الست سنوات. والدكتور عبدالله جراح على مستوى عالمي وله سيرة ذاتية أقل ما يقال عنها إنها استثنائية ومميزة من تخرجه من كلية الطب في جامعة الملك سعود حتى تعيينه وزيراً.
لا أعرفه شخصيا ولكن كل من عرفه أثنى على كفاءته وإخلاصه ونزاهته، وعلى العكس من ذلك الوزارة التي تولاها معاليه إذ لم أجد أحدا ممن تولى مسئولياتها، أو تعامل معها يذكرها بالخير قبل, وأثناء، وربما بعد فترة معاليه. فهذه الوزارة أساءت لكل من حاول إصلاحها، وربما لن يستطيع أحد إصلاحها بوضعها الحالي وبدون تغيير كافة طواقمها، بل وتغيير الثقافة الطبية في البلد بصفة عامة، فالصحة ثقافة قبل أن تكون علاجا، ثقافة على مستوى المريض والطبيب والمرافق الصحية.
أرسل لي زميل بالجامعة مقتطفات كتبها المرحوم الدكتور غازي القصيبي في كتابه «حياة في الإدارة»، تحدث فيها عن هذه الوزارة، ولا يحتاج الدكتور غازي القصيبي للتعريف لأنه كان مثالا يحتذى في علمه، وأدبه وإنسانيته، وإخلاصه. ويذكر الدكتور غازي القصيبي ما أسر له به ولي عهد المملكة في عام 1981م، الأمير فهد بن عبدالعزيز رحمه الله، عندما قال عن الوزارة: «اخترت لها أكفأ الرجال، ورصدت لها أضخم الميزانيات ومع ذلك لم تتحرك. هذا هو القطاع الوحيد الذي لم يواكب التنمية... هذا جهاز ميئوس منه، عندما ظهرت الحاجة لمستشفيات جديدة اضطررت لفرضها فرضا، تصور وزارة الصحة لا تريد مستشفيات جديدة!». ويضيف الدكتور غازي رحمه الله عن عمله فيها: «كانت الفترة التي قضيتها في الوزارة أتعس أيام حياتي على الإطلاق... وقد كان كل أصدقائي الذين يعرفونني عن كثب لاحظوا عليّ الكآبة الدائمة، وكل أصدقائي الحقيقيين تمنوا عليّ ترك الوزارة حرصا على صحتي.»
ويشرح القصيبي بعض الأسباب التي تجعل قطاع الصحة بالذات متخلفًا رغم ضخامة اعتماداته المالية، أن زميلا سابقا له تولى الوزارة ذكر له عجزه عن فصل ممرضة سيئة كانت الوساطات تعيدها مرة بعد مرة لوظيفتها. كما أسر له وزير آخر أن طبيبا أدين بالإهمال «الإجرامي» مما أدى لموت عدة مرضى ومع ذلك لم يستطع فصله. فاتضح له أن مشكلة الوزارة هي عدم الانضباط ففي كل ركن تجد مسئولا لا تستطيع إزاحته، ثم تبين لي، غازي القصيبي، أن كوادر الوزارة لم تتغير من ربع قرن. لم تكن المشكلة أنهم كانوا يفتقرون للنزاهة أو الكفاءة.. كانت المشكلة أنهم درجوا على نمط تفكير اعتادوا عليه...ويعتنقون أفكارا قديمة جدا. كان الناس يتذمرون من خدمات وزارة الصحة قبلي وظلوا يتذمرون في أيامي.» إذاً، كما يذكر الدكتور غازي، المشكلة في الوزارة وليست في الوزراء.
ومما سبق يمكن أن نستشف أن تولي مثل هذه الوزارة يعد مغامرة، ونوع من التضحية بالوقت والسمعة والصحة، يحمد لمن يقدم عليه. فالتذمر ديدن الخدمات الصحية في كل مكان وهو محور صراع الديمقراطيين والجمهوريين في أمريكا، وبين المحافظين والعمال في بريطانيا وفي غيرها من البلدان المتقدمة، فما بالك في بلد بها ما بها من البيروقراطية وعدم الانتظام. فالمشكلة تتجاوز المسئول بكثير.
وزارة مثل الصحة تعد وزارة استثنائية، بها مسئوليات ذات طابع خاص ولذا تتطلب لمن يديرها صلاحيات خاصة تتوائم مع مسئوليات إصلاح ترهلها، وعدم انتظامها. وعدم مواءمة الصلاحيات مع المسئوليات من أهم معضلات التنمية لدينا بوجه عام، فجميع وزاراتنا ومؤسساتنا لديها مسئوليات جسيمة تختلف في طابعها من مؤسسة لأخرى ولكن جزءا كبيرا من صلاحياتها يقبع في دائرتين مركزيتين يتوقف عندها حصان الشيخ عادة: ديوان الخدمة المدنية، ووزارة المالية. فالوزير أو مدير المستشفى لا يستطيع أن يستثني فنياً أو كادرا صحيا لعمله مواصفات خاصة من أنظمة ولوائح ديوان الخدمة. ولذا وفي جميع وزاراتنا يضطر الوزير للتأقلم مع مراكز القوى في وزارته لأنهم يحفظون عن ظهر غيب أنظمة الخدمة المدنية، ويعرفون جيداً دهاليز الشئون المالية، وهو بأية حال لا يستطيع إزاحتهم أو حتى زحزحتهم. والتغييرات الدورية تطال الوزير فقط ولا تشمل هذه الكوادر المحنطة المتجذرة. يذهب وزير ويأتي وزير ومصائب الوزارات وعدم كفاءتها تعشش في مكاتب كبار موظفيها الذين تدرجوا لوظائفهم بالخدمة لا الخبرة.
ولا زلنا نطبق نظاما عقيما للُسلف المالية، ونتبع رجيما قاسيا للأخذ بأرخص العطاءات، ونضع مراقبين ماليين هدفهم الأول هو إبراز عدم الثقة في المسئول وعرقلة معاملاته. نعم هناك تجاوزات متكررة يؤسف لها في بعض الأحيان ولكن يجب افتراض الثقة في المسئول، لاسيما وأن الدولة رعاها الله هي من تعينه، ولكن ذلك لا يعني عدم مساءلته، وبصرامة، إذا هو أساء استخدام صلاحياته. والأمر كذلك ينطبق على التوظيف والتعيين وحتى الفصل من الوظيفة، فكيف نتطلب ضبط العمل من مسئول ما، في قطاع صحي أو غيره، إذا كان الوزير لا يملك صلاحيات فصل موظف أو طبيب؟ فليتنا في المرة القادمة نغير الوزارة بالكامل ونبقي الوزير، أو نمنحه الصلاحيات الكاملة لذلك.
ولنعرج قليلاً على نظرتنا للمهن الصحية ذاتها، فلا زلنا نرى الطبيب بنظرتنا السابقة على أنه إنسان ذو مواصفات خاصة، مواصفات تضعه فوق الخطأ والمساءلة، وحتى النسيان، إنسان خارق للعادة، ولا ننظر له كصاحب مهنة ذات مواصفات خاصة لكنها كسائر المهن وهو ممارس لها كغيره من العاملين. فلا يستحسن نقاش الطبيب، ولا تجب مساءلته، وكل ما عليك هو استلام الروشته التي بها رموزه وكتابته غير الواضحة والذهاب بها للصيدلي القادر الوحيد على قراءتها. وفي البلدان الأخرى يلزم الطبيب، أو يلزم نفسه أدبا، بشرح الوضع كاملاً للمريض، وتبسيط ذلك إذا لزم الأمر له، وهو ملزم بالبحث له عن أفضل طرق العلاج وأيسرها للمريض، لا أصعبها وإغلاها. ومع أن معظم أطبائنا على قدر كبير من الخلق الكريم، إلا أن بعضهم يفتقر لأبسط أخلاق المهنة، مع أن الطب هو المجال الوحيد الذي يلزم دارسيه بتعلم أخلاق المهنة، وتعلم أصول التعامل مع قلق المريض وحالته النفسية.
والعاملون في القطاع الطبي يعرفون أنه تطور عالمي في كثير من جوانبه إلى قطاع ربحي تجاري، وأصبح المريض عميلاً لا إنساناً. وشركات التأمين، والشركات الكبرى لا تثق بالمستشفيات، ومعروف أن كثيرا من المؤسسات الطبية العالمية التي تظهر كمحايدة هي على علاقة سرية بشركات الأدوية، وكذلك شركات صناعة المعدات الطبية. وشركات الأدوية والمعدات الطبية، تستضيف الأطباء ممن لهم مسئوليات إدارية من جميع أنحاء العالم، في زيارات ورحلات سياحية وتغدق عليهم الأموال بادعاء أنها رحلات علمية أو على الأقل تمنحهم كميات مجانية أو مخفضة القيمة لصرفها للمرضى. والقطاع الخاص الطبي يستخدم المال وأساليب أخرى لإغراء كفاءات القطاع العام.
فالقطاع الطبي مغر لمن لا تردعه أخلاقه المهنية ولمن لا ذمة له. ووزارة الصحة تحتاج لصلاحيات رقابية من نوع خاص، وتحتاج لصلاحيات استثنائية سواء في التعيين، أو المكافأة، أو المساءلة. وأعتقد أنه يجب علينا فصل القطاع العام الطبي عن القطاع الطبي الخاص بشكل حازم. وكلنا بلا شك مدينون بالشكر والعرفان لأطبائنا الذين يلزمون أنفسهم بأخلاق دينهم وأخلاق مهنتهم في هذا الوسط المائج بالمغريات. والشكر موصول للدكتور عبدالله الربيعة فقد اجتهد وأصاب في أمور، ولكن ظروف الوزارة أعيته في ظروف أخرى، في الأولى له أجر وفي الثانية له أجران.