وقفت بذهول أمام شاشة التلفاز محدّقة باهتمام في أحد البرامج الأمريكية التي تركت في داخلي وقعاً إنسانياً ثقيلاً بعمق مضمونها ونبل رسالتها، حيث كانت ترتكز فكرة البرنامج حول فريق خبير في البناء والتصميم الداخلي يبحث عن بيوت متواضعة طرق الحزن بابها ليتطوعوا لإصلاحها وتصميمها وإضافة لمسات جمالية وتفاصيل إبداعية إليها، ووقع الاختيار في تلك الحلقة على «جوناث» فتاة أمريكية جميلة تبلغ من العمر السابعة عشرة، شخِّصت قبل أشهر إصابتها بأحد أنواع السرطان الشرسة التي تركت توقيعها على وجهها وجسدها الذي أنهكه العلاج الكيماوي ودمره، فكسبت الكثير من الوزن بسبب العلاج وخسرت شعرها البني الطويل، وتمكن المرض من نزع الفرح والبهجة والحياة من روحها الشابة، فقرَّر فريق البرنامج التطوّع لإصلاح منزلها في محاولة لزرع بذور من الأمل والسرور في حياتها وحياة أسرتها، وحينما قاموا بمعاينة المنزل اكتشفوا أنه بحاجة ملحّة للتعديل، ولكن التعديل هذه المرة سيكون جذرياً حيث قرَّروا هدم المنزل القابع في ولاية كارولاينا الشمالية بالكامل وبناءه من الصفر في غضون 7 أيام فقط، واستعانوا بفريق يتكوّن من عشرات العمال الذين ربطوا الليل بالنهار من أجل إنهاء تلك المهمة الإنسانية العظيمة، وفعلاً، أنجزوا بناء المنزل بكافة مرافقه خلال سبعة أيام وهي المدة التي كانت تقضيها جوناث في المستشفى، الجميل في الموضوع أنهم لم يبنوا منزلاً فحسب، بل نظروا في الحاجات التي تحتاجها بدقة فوفروا لها داخل المنزل جهازاً لتنقية الهواء فأصبحت بيئة البيت موازية لنظافة ونقاء المستشفى، وصمّموا كرسياً موصولاً بدرج المنزل أشبه بالمصعد الذي ينقلها من الأسفل إلى الأعلى وبالعكس، ولم ينسوا الجانب الرياضي فصمّموا قاعة رياضية ومسبحاً يتناسب واحتياجات جوناث الخاصة، وأضافوا لمسات أنثوية ساحرة الى غرفة نومها، وأنبتوا براعم فرح وبهجة في جميع أركانها، وبعد الانتهاء من مشروع البناء والتصميم وحين حان موعد مشاهدة جوناث لبيتها الجديد دعوا جميع أصدقائها وأولاد صفها الذين لبوا الدعوة وجاءوا ليغنوا لها في باحة المنزل أغنيتها المفضلة التي لم تملك عند سماعها إلا ذرف دموع التأثر والامتنان، التي انسكبت بغزارة حينما شاهدت التغيّر الجذري في زوايا منزلها الذي أصبح جنة صغيرة على حد وصفها.. تلك الإصلاحات التي لم تحلم بها جوناث يوماً لم تطل زوايا منزلها فحسب، بل أشعلت أنوار المل والإرادة بداخلها لمكافحة المرض والتغلب عليه.
على الرغم من موجة استنساخ البرامج الغربية التي غزت إعلامنا العربي منذ سنين مثل «اراب ايدول» «ذا فويس» «اراب قوت تالنت» «الرقص مع النجوم» «اكس فاكتور» وغيرها الكثير، فأصبح إعلامنا يتكوّن من 75 % من برامج مستوردة تضمن لرابحيها شهرة سريعة سرعان ما تنطفئ كنجم أضاع في الظلام نفسه,
إلا أننا لم نُعر أي اهتمام يذكر الى تلك النوعية من البرامج التي تستثير العواطف البشرية، وتجعلنا نقف وقفة احترام وإجلال لعقول وقلوب صانعيها، وتحيي في داخل المشاهد قيم الإحساس بالآخر، ومساندته في لحظات ضعفه وانكساره.. تابعت البرنامج مع صديقتي المصرية، التي تأتي من خلفية ثقافية واجتماعية مختلفة إلا أن كلانا بكى من التأثر، وأكاد أجزم أن آلاف المتابعين في أمريكا قد اختنقوا بعبراتهم أيضاً لأن العطاء والإنسانية لغة عالمية يتكلمها ويحترمها ويتأثر بها الناس أجمع من مختلف الأعراق والجنسيات والأديان.. فما أحوجنا في ظل التنافر والتصادم والعنصرية والطائفية التي تمزق نسيجنا الواحد في العالم العربي إلى تلك البرامج التي تحرك مياه إنسانيتنا الراكدة وتمنحنا جرعة مودة ورحمة، وتسمو بنا عن مستنقعات السطحية والتفاهة والمادية التي تسيطر على إعلامنا وتتشبث بعقول صانعيه.. ليس المهم كم نجماً عابراً تصنع برامجنا وكم مليوناً تقدم.. الأهم كم حياة تغير، وكم قيمة إنسانية تزرع، وكم نفساً تنقذ، وكم بسمة ترسم.. هكذا تُحترم عقول الجماهير وتسترد إنسانيتها الضائعة.
نبض الضمير : (لا يقاس السخاء بكثرة العطاء, إنه يقاس بالعطاء في الوقت الملائم).
- لابرويير