** كان في عمرنا أو أكبرَ قليلاً، وبدا لنا أكثرَ قراءةً وأجرأَ مواقف، وإذ مقعدانا في الصف غيرُ متباعدين فقد اعتاد خلال بعض الحصص الدراسية في المرحلة الثانوية تزويدَ صاحبكم ببعض الشعر الذي يحفظه من فصيحِ ما كانت تغنيه أم كلثوم، وفاجأه يومًا بمقال له في مجلة المنهل الشهرية يردُّ فيه على صاحب المجلة ورئيس تحريرها الراحل الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري اختار له عنوانًا صادمًا: (أساء سمعًا فأساء إجابة) وقد غيره الأستاذ أبو نبيه رحمه الله لكنه أشار إليه في الهامش، ورأينا ذلك فضلاً منه وتواضعًا مع أن الحقَّ على صاحبنا الذي غلبه الاندفاع وربما طمع في انتشار مبكر.
** عددنا ذلك تجاوزًا لتبقى الأخلاقُ ميدانًا للدراسات والقراءات، وفي باحثيها من يضعُها ركنًا ثابتًا في معادلة البناء الفلسفي بجانب ركني «المعرفة والجمال»، وبين إطلاقها ونسبيتها جاءت الاختلافاتُ الثقافية الشائكة؛ ففرق بين أن أصنع المعروف لأنه معروف وبين أن أنتظر جزاءً دنيويًا أو أخرويًا، وهو الفارق بين أن يكون الواحد فينا إنسانًا ملتزمًا بمعايير الأخلاق السابحة في فضاء مفتوح وبين أن يلتزمَ بها أمام الجماعة أو القوم أو لاجتلاب الثواب واتقاء العقاب.
** يعي من قراءاته المبكرة تأثرَه بالتفسير التبادلي للأخلاق كما افترض «توماس هوبز» إذ يرى أننا نتعاطف مع الضعيف والفقير والمريض ومن في قوائمهم لتخيلِّنا مواقعَنا المماثلة لهم لو كنا أو صرنا كما هم؛ فالأنا لا الـ»هو» ولا القيم هي التي تحركنا باتجاه الحقِّ والخير، وإذ لا يجد نفسه اليوم مقتنعًا بهذه النظرية مثلما كان بالأمس فإن نفيها التام غيرُ وارد كذلك؛ فالمصالحُ محركٌ أولُ لمعظم السلوكات الفردية والجمعية.
** لم تعد الأخلاقُ قابلةً للاستقراء العلميِّ أو الدينيِّ بعدما تطايرت الأقنعةُ المانعةُ والحافزةُ وتعذر حصرُ الضوابط المجتمعية والعولمية القابلة للتقييس فمجرمو الحروب يجدون سندًا دينيًا وقوميًا يظهرهم قادةً مناضلين بينما يوصمُ المحاربون من أجل الحرية بالإرهاب، وهذا مثلٌ سياسيٌ صادم تكثر مشابهاتُه وتختلط متشابهاتُه.
** وفي دنيا الناس والإعلام تبدو الصورُ متقاربة؛ فقد يتصدرُ من حقُّه التأخر، ولا جديد إذ يحفل التأريخُ بمماثلين غير أن الطارئّ في ظل هيمنة الصغار تجاوزُ كلِّ المعايير الأخلاقية عبر الكتابة المسكونة بالتشاتم والتقاذف والغمز واللمز والسخريَّة والبهتان الفائضة بمفردات رديئة قد تبلغ حدَّ التحريم والتجريم الاجتماعي والشرعي.
** هل وُئدت الفروسيةُ في أدبياتنا وأنتج زمنُنا أناسًا متخصصين في القبح حين حل النَّبل محل النُّبل وذاع الفجور في الخصومة فاستمرأه الأكثرون وباتوا يريدونه ويرددونه دون أن يحققوا ويدققوا في أنباء أُمرنا أن نتبينَها قبل أن نصيبَ قومًا بجهالة.
** غيابُ الخلق يعني غيابَ المعايير الصارمة التي يتكئُ عليها الكاتبُ - أيًا يكن وسيطُه - وهي معاييرُ ذاتيةٌ لا رقابيةٌ فقد ندر المُعرضون عن اللغو وكثر الوالغون في الأعراض.
** الأخلاقُ لا تشترى.