*حينما تتوتر العلاقة بين طرف وآخر أحياناً تكون الهدايا مفاتيح للقلوب، وفي الأثر (تهادوا تحابوا)، فمن الهدايا ما يكون تأليفاً للقلوب، ومنها ما يكون ابتغاء للسلام المنشود، واتقاء للشر المرتقب، وقد تقدم تحت عوامل من الخوف، وأكثرها تأثيراً حينما تعبر عن المودة، والاحترام، والتقدير، وربما تحولت إلى تقليد ومجاملة تعارفت عليها التقاليد، وتواطأت عليها الشعوب.
* والثقافة الإسلامية، والتاريخ العربي القديم والمعاصر حافل بمواقف مختلفة سيقت فيها الهدية، وكم كان لبعض تلك الهدايا من الأثر ما غيّر مجرى تاريخ، أو حضارة بأكملها، ومن الطبيعي أن يكون هناك مواقف متباينة من المهدي والمهدى إليه، رفضاً، أو قبولاً، وقد يكون فيها من الطرف ما يستعذب ويتناقله الناس، جيلاً بعد آخر.
* القرآن الكريم، وهو أعظم المصادر يسوق لنا هدية (بلقيس) إلى النبي (سليمان) عليه السلام، وعلى الرغم من نفاسة الهدية، حيث كانت من (الذهب)، ابتغاء الهدنة، والتصالح، والعيش بسلام بين (بلقيس)، وبين (سليمان) إلا أنها تقابل بالرفض، فالغاية من الكتاب الذي أرسل إليها هو الاستسلام والإذعان والدخول في الإسلام، ونبذ الشرك، كان الموقف صريحاً كما جاء في (القرآن الكريم): {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}.
* وفي السير، يبسط المؤرخون الحديث عن قصة (كعب بن زهير) رضي الله عنه، حينما عرّض بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته -رضوان الله عليهم-، وحين لامس مسامعه أن الرسول قد أهدر دمه، ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فاستحث مطيته، قاطعاً مجاهل الصحراء، ليجثو بين يدي الرسول معلناً التوبة، ومعبراً عن ذلك من خلال قصيدته الشهيرة (بانت سعاد)، التي وصف فيها رحلته التي اكتنفها الخوف من سطوة الرسول، وانتقام الصحابة منه، غيرة على الإسلام وأتباعه:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
متيم إثرها لم يفد متبولُ
أمست سعاد بأرضٍ لا يبلغها
إلا العتاق النجيبات المراسيلُ
* يتأكد النبي -صلى الله عليه وسلم- من صدق توبة (كعب) فيخلع (البردة) التي كان يلبسها ويهديها له. وما كان من معاوية (رضي الله عنه) إلا أن اشتراها فيما بعد من (كعب)، ثم أصبح الخلفاء يلبسونها في الأعياد، وظلوا محتفظين بها حتى قيل في مصير تلك (البردة) النفيسة أقاويل كثيرة، فمن قائل: إنها أحرقت على يد (المغول)، ومن قائل: إنها في أحد متاحف (إسطنبول) بتركيا.
* ولعلّ أقرب حدث في هذا الشأن، أو في هذا السياق، هدية (القلم) من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز للطفل (فيصل الغامدي)، من المؤكد أن هذه الهدية تندرج تحت دوافع الإعجاب والتقدير، والشعور الأبوي المتبادل بين الملك وشعبه، هدية عند ذلك (الطفل) لا تقدر بثمن، وصادق الود، كما قيل (يهدي صادق الكلم)، هدية من إنسان صدق بما عاهد الله عليه مع شعبه ورعيته، فبادلوه ذات الشعور من الإكبار والإجلال، حتى لتلمس ذلك من براءة الطفل (فيصل) وهو يستجوب من رجال الصحافة والإعلام، ويجيب بعفوية وصدق عن شعوره وأحاسيسه البريئة تجاه الهدية.
* القلم، رمز العلم والمعرفة، رمز للتقدم والتطور، هو رمز عندنا كذلك لقوة القرار، وصلابة الرأي، والثبات على المبدأ، والحكمة والحنكة عند من يمتلكه، عند قائد مسيرة الإصلاح والتطوير في هذه البلاد (خادم الحرمين الشريفين)، هذا القلم، الذي دخل به (الطفل) فيصل تاريخنا السعودي من أوسع أبوابه، كما يتصور هو، ويعتقده الآخرون، هذا القلم دافع لأبناء وبنات هذا الوطن، والجيل الناشئ على التسلح بسلاح العلم والمعرفة، والدخول في منافسة شريفة مع العالم المتقدم، فالجميع مع شعور ذلك الطفل الذي تعاظمت في نفسه قيمة الهدية، واحتلت مكانة عنده لا تلمسها في حديثه، بل في تعابير وجهه، حينما يقول: هذا قلم الملك، هذا قلم الملك. وأيّ ملك، إنه ملك القلوب والإنسانية!!