* فيما مضى كان العربي كغيره من الأجناس في زمن ما يعتد أيّما اعتداد بكثرة أفراد القبيلة، وتماسك العشيرة، إذ يعتبرها الأسياد منهم القوة الضاربة التي يفتخرون بها، ويراهنون عليها ساعة النزال، فعلى قدر العدد، والنفوذ الجغرافي تكون القوة حينذاك، وكان الرهان ناجحاً في معظم الأحوال، ولهذا تناقل العرب تلك الأبيات التي تصف حال بعضهم:
ملأنا الأرض حتى ضاق عنا
وظهر المجد نملؤه سفينا
* مع ذلك الشعور، فحقائق التاريخ تثبت أن معظم المعارك وأقساها، وأشدها فتكاً، وأطولها أمداً كانت بين ذوي القربى منهم، ولم يكن الشاعر بغفلة عن رصد ذلك السلوك فيما بينهم حينما قال:
وأحيانا على بكرٍ أخينا
إذا لم نجد إلا أخانا
* أتى الإسلام هدى ورحمة، فهذّب من السلوك والطباع الشيء الكثير، وكان من الطبيعي أن تلتغي كثير من الاعتبارات التي يقوم عليها نظام المجتمع وعلاقته ببعض، لتحل محل ذلك قيم ومبادئ سامية، تلقتها البشرية من أعظم المصادر وأجلّها، القرآن الكريم، والسنّة النبوية الشريفة، وعلى قدر الاتصال بهذين المصدرين، أو البعد عنهما تكون القوة لأي مجتمع، أو يكون الضعف والانقسام والتشرذم.
* في هذا العصر، تغيرت تلك المقومات، وكان من الطبيعي أن تتغير المعادلة في القوة، ففي المجتمعات المدنية، وأمام سطوة الحضارة المادية التي ترتكز على العلم انحسرت، أو تراجعت تلك الاعتبارات، وأمست جزءاً من تراث يجتره البعض اجتراراً، ليس على مستوى الجنس العربي، بل على مستوى جميع الأعراق والقوميات، حتى حينما حاولت بعض القوى في العصر الحديث أن تجعل من الأيدلوجيات مصدر قوة، وإلهام، وتوجيه، وسيطرة لم تصمد تلك الحركات، أو الدعوات، رغم سمو الهدف في ظاهرها على الأقل.
* اليوم انزوت بعض المجتمعات، أو الشعوب التي اعتدت ببعض الموروثات، ووظفتها توظيفاً سلبياً، إذ أصبحت حضارتها وثقافتها -إن وجدت- على الهامش، فلم يكن للموقع الجغرافي، ولا لعدد السكان كذلك، أو المساحة، ولا مقومات الاقتصاد التقليدية ذلك الاعتبار، أو تلك الأهمية، إذ لم تستثمر تلك الروافد والمكونات في الاستثمار بالعنصر البشري الخلاّق لكل شيء في الوجود، ولم يكن هناك توازن في الاستثمار بين متطلبات الحياة المادية العصرية، وبين ما يحكم المجتمع من قيم ومبادئ أخلاقية تضبط مسيرة حياته. وربما كان ذلك الإنسان المثالي الذي يحرص كل الحرص على الموازنة شاذا فيما تعارف عليه الناس واستمرؤوه من هذا السلوك.
* الواقع والتاريخ أثبت قدرة بعض الأقليات، وبعض الكيانات الصغيرة، ومن خلال منظمات محدودة التحكم والسيطرة على بعض المفاصل بالحياة، سواء كان ثقافياً، أو سياسياً، أو اقتصادياً، والسبب أنها أحسنت الاستثمار في أغلى ما يمتلكه الإنسان، ألا وهو العقل.
* من المخجل أن بعض مراحل تطور الفكر لدى بعض المجتمعات يتم تجاهله رغم الإيجابيات، والتجارب الغنية المثيرة، هذا التجاهل يعود لأحد سببين: أحدهما، حالة اليأس، والإحباط، والتشاؤم، والانهزام الداخلي المسيطر على تفكير الشعوب والمجتمعات حتى على مستوى الطبقات المثقفة.
ثانيهما: عدم الرغبة الجادة، والعزيمة الصادقة في محاولة استصلاح الواقع من المؤسسات المعنية.
* أصبحنا الآن، نقرأ، مجرد قراءة عن اقتصاد المعرفة، وننقل، أو نصوّر تجارب بعض المجتمعات النامية، نحاول في خوض التجربة، نتقدم أحيانا خطوات، ثم نفاجأ، لسبب أو لآخر تعثر المشروع التنموي والحضاري الواعد.
* الاستثمار في العقل البشري هو القوة بكل معانيها الذي أصبحت تراهن عليه الدول في عصرنا الحاضر، وليس هناك أنجع من تبني الاقتصاد القائم على المعرفة. اليوم تبرز قوى جديدة اخترقت المعرفة لديها النشاط الاقتصادي والتكنولوجي، فأصبحت قادرة على المنافسة في حلبة اقتصاد العالم، وميدانه السياسي، واستطاعت خلال فترة قصيرة تنمية مهارات سكانها في جوانب عدة. فهل سنتجاهل بعد ذلك كل تلك القوى المعتبرة الجديدة؟