تغلغلت الجماعة في التعليم؛ فاستولت في فترة الاختطاف الطويلة من منتصف 1395هـ إلى ولاية سمو الأمير خالد الفيصل - وفقه الله - في خط بياني متفاوت بين الظهور الجلي والكمون الخفي حسب الظروف المواتية للعمل؛ فبدؤوا بتغيير القيادات الكبيرة المؤثرة في الوزارة على مراحل؛ لتكون مصدر القرارات والمتابعة، وتلتها مرحلة تغيير القيادات الأدنى كمديري المناطق، ثم مديري المدارس؛ لتبدأ على مراحل صناعة أجيال جديدة من الطلاب في كل المستويات عن طريق افتعال برامج لا صفية، كالرحلات والمخيمات والنشاط الصيفي والجوالة وأسر التوعية الإسلامية وجماعات المكتبة وغيرها، ومنع أية نشاطات ثقافية أو إعلامية لا تتفق ومناهج الجماعة، كالمسرح المفتوح مثلاً، أو المسابقات الثقافية العامة، أو الأنشطة الرياضية التي لا تنصهر في بوتقة خطة الجماعة؛ فاختفى كلياً من حفلات المدارس الختامية في كل سنة ما كنا نعهده قديماً تحت اسم «المسرح المدرسي»، وحل محله تمثيل لأدوار تخدم أفكار الجماعة، وتقدم الأشكال التي تريد رسم صورتها الذهنية، واختفت مظاهر التشجيع للمتفوقين أو المميزين حين كان الجمهور يشجعهم بالتصفيق البريء الذي لا يحمل أية مدلولات أخرى غير الانفعال بتفوق أو تميز أحد الأبناء!
وحوَّلت الجماعة المكتبات التي كانت عامرة بكل ما يثري ويبهج من المعارف والثقافات الدينية والتاريخية والفكرية والأدبية من المملكة والأقطار العربية كافة إلى مطويات دينية وكتب فكرية مخصوصة، تخدم أفكار الجماعة، وأوكلوا إدارة تزويد مكتبات المدارس إلى عناصر من تنظيم الجماعة؛ لتتحكم في فلترة وفرز ما يمكن أن يمرر لمكتبات المدارس وما يرفض من المؤلف أو الناشر بحجة عدم احتياج الوزارة إلى مثله، مما اعتاد المؤلفون والناشرون على أن يسمعوه من إدارة التزويد الإخوانية تلك!
لقد انقلبت مكتبات المدارس بتخطيط الجماعة وعملها المنظم الدؤوب خلال عقود إلى هياكل مكتبات مفرغة خاوية، لا مكتبات، وتحولت الأنشطة المدرسية المؤدلجة إلى مفارخ لاكتشاف العناصر المهيأة للاستقطاب والاندماج في خلايا الجماعة وبرامجها المختلفة.
وسعت الجماعة وفق رؤية مدروسة إلى تقليص الاهتمام بالبعد الوطني، وتهميش احترام رموز الوطن وقادته، وإخفاء السلام والنشيد الوطنيين من مناسبات كثيرة، وإعلاء شأن مصطلح «الأمة» لتكون بديلاً لـ»الوطن» في تخطيط خبيث لإلغاء وشطب مفهوم الانتماء إلى الأرض والتاريخ والقيم والقيادة، واستبدال ذلك بالانتماء إلى مفهوم هلامي غير محدد المعالم ولا الملامح، وهو «الأمة» من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن أقصى الشمال إلى الجنوب؛ فيتوه الشاب الصغير الناشئ بين وجهات الدنيا المتباعدة المتنافرة جغرافياً وتاريخاً وثقافاتٍ ولغاتٍ، ويضيع في توهانه ذاك وطنه موضع قدميه وتربة آبائه وأجداده.
والحق أن المقصود تغييب تاريخ تكوين دولتنا وما قامت عليه من منطلقات دينية سلفية نقية خالصة، وما بذله الآباء المؤسسون من جهود وتضحيات ليكون لنا وطن، نعتز بالانتماء إليه وإلى قيادته!
ولقد أسهمت وزارة المعارف - مع الأسف - خلال أكثر من ربع قرن ثم وزارة التربية خلال عقد في تخريج أفواج من الأجيال المتشددة التي نسعى جميعاً الآن إلى إعادتها إلى جادة الاعتدال والتسامح، وإلى الاندماج والتفاعل الإيجابي مع صياغة اتجاه وطني منفتح - باعتزاز بمبادئه وثقة في نفسه - على العالم.
يا صاحب السمو.. نتطلع منك وأنت القوي الأمين أن تعيد وزارة التربية إلى عهدها القديم المشرق قبل أن تختطف.
أعد إليها مسرحها النابض المنفتح، ومسابقاتها الثقافية والأدبية وجوائزها ورحلات طلابها النجباء على العالم ومهرجاناتها الرياضية والثقافية السنوية.
أعد إليها النشيد والسلام الوطني.
أعد إليها مكتباتها التي كانت عامرة بكل تليد وطريف من المعارف.
أعد إلى طلابنا تغذيتهم القديمة التي كانت الوزارة تبر أبناءنا بها، وأغلق دكاكين التعليم التجارية والمؤدلجة.
لا تدع مستقبل الأجيال بيد التجار، ولا بيد الجماعات. وفقك الله ورعاك.