لن أضطر في هذا الجزء من المقال عن أستاذ الجيل محمد بن سعد بن حسين إلى ذكر مؤلفاته ودراساته والرسائل العلمية التي أشرف عليها؛ فذلك أمر ميسور موجود في الموسوعات والأدلة؛ ولكنني أجد أن من المفيد الواجب تدوينه للتاريخ ما يمكن نسيانه مع مرور الزمن من صفات الرجل ولمحاته الذكية والوقوف على خصائص شخصيته مما لا يمكن أن يدركها إلا أهله وخاصته والمقربون اللصيقون به من طلابه.
كان من حسن الحظ أن جمعتني المواقف العملية والعلمية بأستاذي العزيز؛ فهو أول من عرفنا نحن الدارسين في الجامعة من طلاب جامعة الإمام 1396هـ -1400هـ على أن لنا أدباً سعودياً يجب أن يدرس ويبحث ويؤرخ ويعرف بأعلامه، واقترح علي أن يكون الشعر السعودي تيارات وأجيالاً وصوراً إبداعية موضوعاً لبحث التخرج؛ فانكببت على هذا الموضوع ما يقرب من عام دراسي؛ حتى جمعت مادته العلمية من دواوين وكتب نقد وتأريخ أدبي وتعريف بالشعراء وسواها، وكانت قاعة الجزيرة العربية بمكتبة الأمير سلمان بجامعة الملك سعود خير معين لي في تقصي المصادر والمراجع، وحين فرغت منه وقدمته له وبعد قراءته ومنحه الدرجة التي أكرمني بها اقترح علي أن أواصل دراساتي العليا في تفاصيل أدب بلادنا؛ كونه - آنذاك - مطلع الفرن الهجري الخامس عشر - لم ينل حظه من الدرس والبحث، ووقعت نصيحته من نفسي موقعا حسنا، وسرت في هذا الطريق الشائك الغامض الذي لم تجله بعد دراسات سابقة ولم يذلل الطريق إليه باحثون، ووفقني الله إلى « المقالة في الأدب السعودي الحديث « موضوعا للماجستير، و» المرأة في القصة السعودية « موضوعاً للدكتوراه، وكلاهما حظيا بإشرافه ومتابعته وقراءته الدقيقة لكل سطر كتبته فيهما، حيث شارف بحث المقالة على ألف صفحة، ونيف بحث المرأة في القصة على ألفي صفحة.
كان -رحمه الله- جلداً صبوراً على الاستماع والمناقشة والحوار؛ فقد استغرقت جلسات رسالة الدكتوراه ثلاثاً وسبعين جلسة، كل جلسة تستغرق ساعتين أو تزيد نصف ساعة أحياناً، وكان يغير مواعيد الجلسات إما من السادسة صباحا بعد صلاة الفجر مباشرة في الشتاء أو الرابعة بعد صلاة العصر في أوقات الصيف.
وعلمني الانضباط في الوقت؛ فقد غلبني النوم فضربت عليه جرس الباب الساعة السادسة والربع صبيحة يوم من عام 1408هـ وكنت على موعد معه في بيته القديم في الملز لأقرأ عليه فصلاً من بحث المقالة، ولم تكن لدينا آنذاك هواتف جوالة؛ فظللت أقرع جرس الباب مرات عدة ولا مجيب، وبعد طول انتظار ويأس قفلت راجعاً ظاناً أنه قد يكون غلبه النوم فلم يستمع إلى جرس الباب؛ ولكنني حين هاتفته عصراً؛ قال لي: بل استمعت إلى جرس الباب يرن وكنت أتمشى في حديقة المنزل ولكنني لم أفتح الباب لتأخرك ربع ساعة بعد السادسة!
وفي إحدى المرات تعطلت سيارتي عصراً؛ وكان الموعد معه الرابعة في بيته الجديد في حي النخيل؛ فاضطررت أن أدع السيارة بدائها المفاجئ الذي لم أعلمه وأمتطي سيارة أجرة على عجل حاثاً سائقها على الإسراع قليلاً؛ لئلا أتأخر على الرابعة بعد ذلك الدرس القديم!
وفي إحدى المرات خشي أن يتأخر على اجتماع القسم وكان رئيساً له آنذاك عام 1409هـ فطلب مني أن نقرأ الفصل المنجز في مكتبه بالكلية؛ فركب معي السيارة وكان النهار لم يشعشع بعد ودخلنا كلية اللغة العربية في مبناها القديم بالناصرية في ظلام؛ فكان يمد يده على مفتاح الإضاءة وكأنه يراه ويوقد الضوء لي كي لا أتعثر!
وإلى جانب تتلمذي عليه في الجامعة ثم الماجستير ثم في الدكتوراه تشرفت بمجاورته بعد انتقالي إلى الجامعة؛ فكان مكتبي ملاصقاً لمكتبه، وقدمت له برنامج «من المكتبة السعودية « من عام 1399هـ إلى منتصف 1424هـ.