فخر الأمم عقولها، علماء ومفكرين وأدباء. ألمانيا تفاخر بفلاسفتها جوته ونيتشه قبل أن تفاخر برمز جودة صناعتها (مرسيدس)، وفرنسا تحتفي بأديبها فيكتور هيجو أكثر من برج إيفل. الروائيان الكبيران تولستوي ودوستويفسكي يمثّلان معيناً فياضاً لسبر أغوار المجتمع والشخصية الروسية كما أنهما مدرستان للآداب العالمية،
بل إن مؤسس مدرسة التحليل النفسي سيجموند فرويد، نسج عدداً من نظرياته في علم النفس بعد أن قرأ لدوستويفسكي صاحب (الجريمة والعقاب).
أما الإنجليز فإن شكسبير فخرهم وملهمهم وشاغلهم بل والعالم معهم، هو معينهم الذي لا ينضب والذي لا يعدمون وسيلة ليظل حياً بأدبه. آخر مبادرات احتفائهم بمرور أربعمائة وخمسين عاماً على ميلاد كاتبهم وشاعرهم الأكبر، مبادرة مدهشة بل تدعو للعجب في ابتكار طرق الاحتفاء بالرموز، وهي ما قامت به شركة طيران (فيرجن) بعرض مسرحية شكسبير (روميو وجولييت) في رحلتها من إنجلترا إلى مدينة العاشقين التي كانت مسرحاً لقصتهما الحقيقية (فيرونا) الإيطالية. احتفاء شركة طيران تجاري منخفض التكلفة، والتي وضعت رسماً لوجه شكسبير على أجسام طائراتها في حركة تنم عن اعتزاز وتعظيم لكاتبهم الأكبر، احتفاء يمزج التجارة والأعمال بالثقافة والإنسانيات، ويذكر بأن الأمم المتقدمة لا يفترض أن ينسيها تقدمها الصناعي والعلمي أصالتها الثقافية والحضارية ورموزهما. وهي كذلك اجتراح لطرق جديدة في الترويج للسياحة الثقافية أو لنقل السياحة الهادفة والتي يعود بعدها السائح إلى موطنه وقد اكتسب معرفة وصقل موهبة. كذلك يكشف هذا الاحتفاء بهذا الكاتب المسرحي والشاعر بأن الفكر والثقافة ورموزهما يمكن أن تولد فرصاً اقتصادية وفعاليات سياحية واجتماعية، فوق تأثيرها المتعاقب عبر الأجيال في مجتمعاتها والمجتمع الإنساني بشكل عام.
في نيويورك عثر صاحبا مكتبة لبيع الكتب المستعملة على قاموس يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، وكان بحوزة شكسبير وعليه ملاحظات مدونة بخط يده، إذ تقوم لجنة بدراسة الخط اليدوي على هوامش القاموس لإثبات أنه بيد شكسبير، بينما يتم حفظ هذا القاموس في حصن حصين، وكأنه كنز لا يُقدر بثمن، بعد أن اشتراه أصحاب مكتبة بيع الكتب المستعملة من تجار كنديين بمبلغ 4900 دولار فقط!.. وكم بين سقط المتاع المباع في الأسواق الشعبية من نفائس ضلت طريقها وتنتظر من يلتقطها فيقدرها حق قدرها كما فعل هؤلاء الوراقون في نيويورك. هذا ما يمثّله شكسبير للإنجليز وغيرهم من مورد سحيق الغور ثقافياً واقتصادياً وسياحياً.. ولو تفرّغ الروس للبناء والتنمية الحضارية ونقّبوا في تركات وآثار تولستوي ودوستويفسكي وبوشكن لكان خيراً لهم من إرسال براميل البارود على رؤوس السوريين.
وإذا كنت أعجب بهذا الاحتفاء وطرقه المبتكرة فلن ينسيني هذا رموزنا الفكرية والعلمية عبر تاريخنا الإسلامي والعربي المديد، فهل يخفى تأثير (ألف ليلة وليلة) من الناحية الأدبية والسردية خصوصاً على روائيي أوروبا عموماً. أو تأثير قصة ابن طفيل الأندلسي (حي بن يقظان) والتي بنى عليها الكاتب الإنجليزي دانيل ديفو قصته الشهيرة (روبنسون كروزو)!.. أو دانتي صاحب (الكوميديا الإلهية) الذي نهل من معين الأدب العربي في عمله هذا. هل نغفل عبقرية الجاحظ الأدبية والموسوعية، وشاغل الناس من يومه إلى يومنا المتنبي بعبقريته الشعرية وأثرها الفكري، ابن المقفع بأدبه وترجماته.. بل هل يمكن نسيان الفارابي وابن رشد اللذين ترجما أفلاطون وأرسطو الإغريقيين فأخذ الغرب هذه الترجمة التي بنى عليها ثقافته وفكره مضافاً إليها فكر الفارابي وابن رشد وفلسفتهما، كل أولئك وغيرهم مما يصعب حصرهم، أثّروا وما زالوا يُؤثرون ويحوزون كنوزاً معرفية وفكرية وثقافية يحق للعرب الفخار بهم على باقي الأمم، لولا أن الأمة تمر بدورة انحدار سوف تعقبها دورة نهوض - بإذن الله تعالى -، حتى تجد القوة والإمكانيات للاحتفاء برموزها بطرق مبتكرة أجمل وأرقى.
تعقيب وشكر
الدكتورة الفاضلة المتخصصة في تخطيط الأعصاب بمستشفى الملك فيصل التخصصي أمل مقيم أرسلت تشكرني على مقالي الماضي عن إنجازاتها هي والدكتور فيصل العتيبي في علاج الخلل والتقلص العصبي .. أقول للدكتورة أمل وكل من نفخر بهم من رموز حضارية: هذا أقل القليل مما يكنه وطنكم وأهلوكم لإبداعاتكم وأياديكم الرحيمة. أشير إلى أن الدكتورة أمل سوف تقيم ورشة تدريبية للأطباء والفنيين في تخطيط الأعصاب والعضلات هي الأولى من نوعها بالمملكة في 10 - 11 من هذا الشهر مايو.. حقاً إن ثروات الدول الحقيقية في شعوبها فتحية إكبار وإجلال لهؤلاء، صحبكم الله.