هناك أصوات تجأر بالشكوى بين الحين والآخر منادية بالإصلاح الديني لدى المسلمين على نمط ما حدث من (إصلاح) ديني لدى المسيحيين والكنيسة الغربية بالذات. ومما لفت نظري في هذا الصدد مقال الأخ الدكتور حمزة السالم في هذه الصحيفة بعنوان (الحرية في توحيد التعبُّد لله)، وفيه يذكر مشكوراً حواراً بينه وبين أستاذ فلسفة في إحدى الجامعات الأمريكية..
ويمكن للقراء الكرام الرجوع إليه إن رغبوا، وهو يدخل ضمن دعوات الإصلاح الديني التي أتحدث عنها هنا.
يذكر الدكتور حمزة أن رجال الدين في الكنيسة حجروا على الناس في العبادة وطرقها وطقوسها، فلم ينعتق المسيحيون من ربقة الخضوع لرجال الكنسية وينطلقوا في العلوم والحضارة إلا بعد أن أبعدوا رجال الكنيسة، وحيدوهم بعيداً عن الحياة العامة، وهذا صحيح، لكن هل بسبب ذلك أصبحت المسيحية أكثر الأديان انتشاراً، وأن جماهير غفيرة وجدت فيها خلاصاً من هيمنة رجال الدين في الأديان الأخرى؟
حسناً، لنأخذ نقاط الحوار بعقلانية وهدوء؛ لتتضح الحقائق. أولاً: حيَّد الغربيون الكنيسة ورجالها؛ لأنها لم تعد قادرة على إيجاد الحلول والأجوبة لما يواجهه المجتمع المسيحي حينذاك من مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية، عدا عن سيطرتها على الفكر، وحجرها العقول، والتضييق على العلماء، بل حرقهم بتهم الكفر والزندقة، إلى جانب سيطرة الكنيسة كذلك على السياسة والاقتصاد والاجتماع بدون تقديم حلول كما ذكرنا، وبعيداً عن القيم المسيحية الأصلية، وذلك بعد التحريف الذي طال الإنجيل حتى أصبح أناجيل سبعة؛ فكان من الطبيعي الثورة عليها، وتحييدها بل إن موجات الإلحاد التي طالت أوروبا ما هي إلا ردة فعل لاضطهاد الكنيسة، وهي على أزماتها كما قلنا. ثم لا ننسى أن سيطرة الكنيسة ورجال الدين المسيحيين خلال العصور الوسطى على ميادين الحياة العامة في أوروبا إنما هو لضمان مصالحهم المادية والاجتماعية؛ لذلك كانوا يخشون بروز العلماء والمخترعين والكتّاب والروائيين؛ لأنهم كانوا يثيرون الأسئلة الحرة، ويشعلون جذوة الفكر والعقل لدى الجماهير، وذلك كان أكبر تهديد لرجال الدين ومصالحهم؛ لذا انطلقت المجتمعات الغربية حين عبرت إلى عصر النهضة، ثم إلى الثورة الصناعية وصولاً إلى الثورة العلمية التي تعيشها ويتلقاها العالم على مستويات مختلفة؛ لأن العقل والعلم أقوى من التعاليم المحرفة أو الموظفة لأهداف دنيوية. علماً بأن الأديان السماوية أصلها واحد، وقيمها واحدة.
إنما هل المسيحية أكثر الأديان انتشاراً؟ هناك حركات تبشيرية نشطة منذ عهد الاستعمار حتى هذه اللحظة، خاصة في إفريقيا، بل حتى في إندونيسيا أكبر دولة إسلامية من حيث عدد السكان، لكن هل من يعتنق المسيحية من أولئك نتيجة اقتناع ووعي أم هي الحاجة والجوع؟ إن نسبة من يذهبون إلى الكنيسة أيام الآحاد من المسيحيين لا تتعدى 8 %. وفي المقابل، فإن عدد من يعتنقون الإسلام عن وعي وفهم واقتناع في ألمانيا فقط 4000 فرد سنوياً، وفي أمريكا يبلغون 20000 (عشرين ألف أمريكي) سنوياً، وإن القرآن الكريم المفسر باللغة الدنمركية أصبح أكثر الكتب مبيعاً في الدنمرك بعد حادثة الرسوم المعروفة، وإثر ذلك أسلم الآلاف من الدنمركيين (8000 آلاف خلال 3 سنوات أو أقل).
من جهة أخرى، لا يمكن قول الشيء نفسه عن رجال الدين المسلمين؛ لأنه ببساطة كل مسلم هو رجل دين، يصلي ويصوم ويمارس عبادته، ويعيش حياته وفقاً لتعاليم الإسلام، والناس متفاوتة في هذا، سنة الله في خلقه.
أما اتباع رجال الدين فهو لا يعدو استفتاء لعالم أو تأثراً بصالح، وما عدا ذلك فعلاقة المسلم الواعي بربه لا تحتاج إلى وساطة. وإنما تخلف المسلمين وضعفهم بسبب تفرقهم، وعدم الأخذ بأسباب القوة والحضارة التي حث عليها دينهم، والخلل في تطبيق بعض تعاليم هذا الدين العظيم أو تحريفها لغايات متفرقة. والقرآن الكريم سالمٌ من التحريف بعهد الله تعالى، كما أن الدين الإسلامي دين حياة وآخرة، واضح لا غموض فيه ولا تناقض، على العكس الديانات الأخرى التي فرَّ منها أتباعها؛ لأنهم عجزوا عن الحصول على إجابات واضحة لتساؤلاتهم. إن الإسلام حث على كل ما من شأنه الرقي بحياة الفرد، وعلى الاستفادة مما لدى الآخرين من منجزات ومخترعات، وتقليدهم فيما ينفع وما هو صحي وإيجابي بشكل عام.
من جهة أخرى، الغرب يتقدمنا بنحو مئتي سنة، نظرياً، أي إذا أردنا اللحاق به قد نحتاج إلى قرنين، لكن لننظر إلى ماليزيا وتركيا وإندونيسيا، فمتى ما أخذنا بأسباب التقدم انطلقنا دون الحاجة إلى إبعاد الدين أو تحييد المسجد، كما حصل للغرب مع الكنيسة.
تعقيب: السيدة غادة الشماسي عقبت مشكورة على مقالي السابق عن قيمة التطوع والقدوة فيه، وهنا مختصر تعقيبها الكريم: (الإقدام على أي عمل تطوعي يتطلب أرواحاً تعطي دون مقابل، أرواحاً شفافة لا يشعر بها إلا من مست تلك الأعمال أرواحهم، إنها أرواح لا تملك عصا سحرية، تعيد ما فُقد، أو تعوضه، لكنها تملك سحرها الخاص في مسح دمعة، ورسم ابتسامة، وطمأنة قلوب أعياها الحزن والألم، وتخبرهم بصوت خافت يملأ الأرض والسماء ضجيجاً: لستم وحدكم فيما أصابكم، فنحن - بعد الله - معكم).
مع فائق شكري واحترامي للسيدة غادة على هذا التعقيب القيم الراقي. وأنتم معشر القراء الكرام الصدى الذي يشعرنا بأصواتنا، والله يحيطكم بعنايته.