العمران وجه من أوجه أي حضارة على مر التاريخ البشري، يتمثل في المساكن والمباني العامة، في السكك والشوارع والمدن، تتوشح جميعها بثقافة الأمة وهويتها، وتمثل فكرها. الهندسة والتخطيط والإعمار ليست تصميماً وحسابات مجردة كما يعرف كل مطلع، إنما تأخذ شيئاً من التاريخ وعلم الاجتماع والنفس والصحة والعلوم وكل ما يمنح هذا المبنى
.. أو تلك العمارة وهذه السكة أو ذاك الشارع هوية وطنية وسمة حضارية تميزه عن غيره في بلد آخر.
لفت نظري ما أعلنته وزارة الشؤون البلدية والقروية الأسبوع الماضي عن أنواع الأحياء من حيث التخطيط؛ إذ قسمت الأحياء إلى الشبكية والمغلقة والعضوية والحلقية والمختلطة، بهدف وضع مسؤولي التخطيط وأصحاب المخططات - حسب بيان الوزارة - في الصورة، وتشجيعهم على الاختيار الأمثل للمخطط الملائم حسب الحي والمدينة وطبيعتهما.
المثير للاستغراب اعتراف الوزارة بأن الغالبية العظمى من الأحياء في مدن المملكة هي من النوع الشبكي! وكأن السكان لا يدركون ذلك، ولا يشتكون مر الشكوى من هذا النوع من المخططات. وهنا لنا أن نتساءل ببساطة: لماذا أحياؤنا أو أغلبها شبكية التخطيط؟ ولماذا تغيب الأنواع الأخرى من المخططات، وبخاصة المغلقة منها على الرغم من تعداد الوزارة في بيانها، وهو ليس بالشيء المجهول أو الجديد؟! أقول: بالرغم من تعدادها للمزايا التي توفرها الأحياء المغلقة لساكنيها من الشعور بالتواصل الاجتماعي والهدوء وارتفاع مستوى السلامة وسهولة الوصول للخدمات والمرافق وارتفاع الشعور بالأمن لدى السكان، كما تتميز هذه الأحياء المغلقة بمدخل ومخرج للحي؛ ما يعطي الخصوصية والأمن للحي وساكنيه.. كل هذا وغيره من المزايا يعرفها قطاع عريض من الجمهور، ثم تأتي الوزارة بهذه (الدراسة)، وكأنها من باب (عملنا اللي علينا)!
ترك التخطيط كل هذه العقود منذ الطفرة عام 1975 وبدء صندوق التنمية العقاري نشاطه لموظفين وتجار عقار، وغياب البعد الاجتماعي والثقافي والصحي والحضاري بشكل عام عن هذا التخطيط، شوّه هذه المخططات (الشبكية)، وخلق بين سكانها جفافاً اجتماعياً، تراجع معه الشعور بالأمان والسلامة، وأصبح الخروج للشارع كابوساً لبعض العائلات خوفاً على أطفالها من السيارات التي تسير في طرقاتها وكأنها في طرق سريعة. ثم أتت المحال التجارية (أو الدكاكين بعبارة أصح) فطوقت هذه الأحياء من جهاتها الأربع، فصار الناس في تجمعات سكانية تقطعها شوارع من جهاتها الأربع بأسفلتها وتلوثها وضجيجها بل سوء حالتها، ثم تأتي الوزارة بعد كل هذه السنين وكأنها تريد إعادة اختراع العجلة لتعرّف أنواع الأحياء وميزات كل نوع.
الأجدر بالوزارة التحرك والتنفيذ بدلاً من التنظير، وإعادة النظر في تخطيط الأحياء، واستبعاد التخطيط الشبكي؛ ليصبح الخيار الأخير، طالما أنها عددت فوائد ومزايا الأحياء المغلقة، وهي التي كانت عليها أحياؤنا الطينية تقريباً حيث حكمة أجدادنا بما أتاحته إمكانياتهم وظروفهم في تلك الفترات، إلا أنها كانت نتاج حس بيئي وثقافي واجتماعي. والوزارة لن تعدم الكوادر التي يمكنها سَنّ القوانين والأنظمة الكفيلة بإعادة الروح الاجتماعية إلى الأحياء لتكون أحياء بمعنى الكلمة لا علباً خرسانية و(أسفلت أسود).
يعرف الكثيرون مزايا الأحياء المغلقة وحسن تخطيطها وتأثيرها النفسي والاجتماعي والخدمي من خلال ما يرونه من نماذج لهذه الأحياء في بعض المدن السكنية التابعة لبعض الهيئات والوزارات كمؤسسة النقد وبعض المدن العسكرية لوزارة الدفاع وغيرها، فهل تعجز وزارة الشؤون البلدية عن تخطيط مماثل؟ لا أظنها كذلك. على الرغم من صعوبة تنفيذ أحياء مماثلة لتلك التي نُفذت منذ عقود، ولا تزال متمسكة بجودتها وحسن تنفيذها.. وما العجب، وقد نُفذت بواسطة شركات عملاقة متخصصة كورية أو أوروبية أو أمريكية، وليست تلك الشركات التي سمنت حتى أُصيبت بالتخمة فلم تقوَ على الحركة والنشاط فتعثرت المشاريع لدينا، بل إن بعض التي اكتملت - أقول بعض - تبدأ الشكوى من رداءة التنفيذ ومشاكل الصيانة بعد أشهر من افتتاحها!
إن حكومة المملكة تتوافر على أضخم موازنة في الشرق الأوسط، ومن الأضخم في العالم، ولم تقصر القيادة، ومن يتربع على هرم هذه البلاد - حفظه الله - يقولها ويكررها كل عام بأنه ليس لأحد حجة، فلم يبقَ إلا العمل. وبالله الأمل وهو المستعان.