بعد أيام قليلة من اتفاق الرياض، الذي وقعه وزراء دول مجلس التعاون الخليجي، وأنهى خلافاً بين قطر من جانب، والسعودية، والإمارات، والبحرين من جانب آخر. بعث الشيخ يوسف القرضاوي برسالة تصالحية إلى السعودية، والإمارات، التي سبق وشنّ حملة عليها؛ تزامنا مع الخلاف القطري، وهذه الدول؛ ليقول:
« إنني أحب كل بلاد الخليج، وكلها تحبني، السعودية، والكويت، والإمارات، وعُمان، والبحرين، وأعتبر أن هذه البلاد، - كلها - بلد واحد، ودار واحدة».
في تناقض يكشف عمق أزمة الفتوى، عندما يتلاعب بها رجل الدين لصالح أمور سياسية، وذلك عبر مواقع الريادة، ومنابر الفتيا؛ لتعم الفتنة، فإن ذلك لا يحدث عادة، إلا تحت ضغط الاعتبارات السياسية، - لاسيما- في المنطقة العربية، والتي شهدت - خلال الثلاث سنوات الماضية - حراكا متعدد الأوجه، وتطورات خطيرة غير مسبوقة، فاختلطت معها الأوراق، فكان أن بلغ منتهى أدوات الفتوى عند الشيخ القرضاوي، حين أقحم الدين في آرائه الشخصية؛ من أجل أن يكون مصدرا للفتوى السياسية، فغاب صوت العقل، وانحسر مبدأ الاختلاف، - خصوصا - والأمة الإسلامية تعيش أوقات الشدائد، وأزمات الفتن.
لم تتوقف زخارف هذيان الشيخ القرضاوي، حين بيّن علماء الإسلام، تحرم الخروج على الحاكم، باعتبار أن الخروج على الحكام محرم شرعا، - سواء - كان بالقول، أو بالفعل، وذلك بنص القرآن، والسنة، والإجماع؛ ليستنكر القرضاوي هذا الحكم، قائلا: «إن الفقه الرجعي الذي يسير في ركاب الحكام، وإن ظلموا، وجاروا، ينبغي أن يختفي أمام الفقه الثوري، الذي يعمل على تقوية الشعوب، وينقي الحكم من مطامعه، ومساوئه؛ وليتتابع الأمر - بعد ذلك - بفتوى - الشيخ - القرضاوى، بوجوب الخروج على النظام الحالي في مصر بعد عزل مرسي، وأنه قد: «آن الخروج؛ لأنه من صميم الجهاد في سبيل الله، وأن القتلى في هذه الاحتجاجات شهداء عند الله، والخروج على هذا النظام واجب شرعًا على كل قادر».
عندما يتكلم علماء الإسلام عن مقاصد الشريعة، فهم يعبرون عن مدى تطابقها مع مدلولاتها الشرعية، ومعناها، واستحضارها، وذلك عند العمل بها أثناء الاجتهاد الفقهي؛ من أجل تحقيق مصالح الدين، والدنيا، وفق فهم سلف هذه الأمة. - ولذا - فإن المصالح الضرورية بهذا المفهوم، لا يستقيم نظام الأمة، وأفرادها إلا بتحصيلها، بحيث إذا انخرمت، فإنها ستؤول بحال الأمة إلى الفساد، ولا تكون على الحالة التي أرادها الشارع منها. وبالنظر إلى الواقع، وعادات الشرائع، والاستقراء، فقد حُصرت المقاصد الضرورية في خمسة أنواع، هي: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال؛ وليكون المقصود من المقاصد الحاجية، هو: رفع الحرج عن المكلفين، وحماية الضروريات، وخدمتها، وذلك بتحقيق صلاحها، وكمالها، ثم تأتي بعد ذلك المقاصد التحسينية؛ لتبقى حامية للمقاصد الحاجية، وخادمة للمقاصد الحاجية، والضرورية.
إن المحافظة على المقاصد الشرعية يكون بأمرين، أحدهما: المحافظة عليها من جانب الوجود، وذلك بحفظ ما يقيم أركانها، ويثبت قواعدها. والآخر: المحافظة عليها من جانب العدم، وذلك بحفظها مما يدرأ عنها الاختلال الواقع، أو المتوقع منها. فتقدير مصالح الأمة، والسعي إلى تحقيقها، والتضحية من أجل بيان الحق، مع الاتصاف بالتقوى، وحسن الرأي، والإخلاص، والحرص على ما ينفع الناس، هو ديدن أهل الحل، والعقد، الذين فهموا الشريعة الإسلامية فهما صحيحا؛ ليصلوا إلى فهم الحكم الشرعي في النوازل، التي لم ينص عليها الشارع.
يؤكده ما سبق، حديث - الدكتور - رأفت عثمان - أستاذ الفقه بجامعة الأزهر، وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - قائلا: بأن الفتوى السياسية، يمكن تقسيمها إلى قسمين كبيرين، أحدهما: الفتوى السياسية «الاجتهادية»، المستندة لتشخيص المصلحة الكلية - شرعا وواقعا -، مع انعدام دلالات نصية، وتشريعية مباشرة في موضوع الفتوى، مما يضطر المفتي؛ للاستناد في فتواه للاستدلال بالقواعد الكلية للشريعة في تشخيصه الواقع السياسي، الذي يتحرك فيه، وهذا النوع من الفتوى، هو الغالب على المسائل السياسية، التي وردت بشأنها نصوص محدودة، ترسي قواعد كلية، وجل الضوابط الشرعية مناط بتحصيل المصلحة، ودرء المفسدة، مع عدم الاصطدام بنص، أو قاعدة شرعية أخرى، - لافتا - إلى أن هذا النوع من الفتوى، سيظل محل جدل، وأخذ، ورد، نظرا لاختلاف المنطلقات، ووجهات النظر في تشخيص الواقع من جهة، ولاختلاف منازع الاستلال المذهبية في القواعد الكلية للشريعة - ذاتها - من جهة أخرى، أما القسم الثاني من الفتوى السياسية، فهو: المتعلق بالفتوى السياسية التفسيرية، المستندة لنص قطعي الورود، قطعي الدلالة، وهي فتوى يضيق فيها مجال الرأي، والخلاف؛ لأن دلالتها نصية قاطعة، - وعادة - ما تعضد بالإجماع، الذي هو أحد أهم المصادر التشريعية.
إن جمع الكلمة، ووحدة الصف، وإشاعة المحبة، وبث روح الوئام على مبدأ السلم، من مقاصد الشريعة، وعليه، فقد توقف علماء الإسلام في مسألة الخروج على الحاكم الجائر، - باعتبارها - من أخطر الأمور؛ ولما يترتب على الخروج من فتنة، وقتال، وسفك للدماء. فقواعد الشريعة المتسقة مع قيمها، تمنع الخروج، وذلك بعد الموازنة الدقيقة بين الضرر القائم، والضرر المتوقع، عندما يكون الأخير أرجح؛ لأن مفسدته ستكون أكثر من مصلحته في هذا الباب، فهل يعي الشيخ القرضاوي تلك المقاصد العظيمة ؟.