الكل ينادي بإصلاح التعليم، والكل يرغب في ذلك، ويتساوى في هذا الدول المتقدمة والأقل نماء وتقدما، بل إن الدول المتقدمة أكثر حرصا ومثابرة على إصلاح التعليم وتطويره بصفة دورية، وهذا أمر بدهي لكونه يتعلق بأدبيات التربية وعلومها التي لا تتثاءب أبداً، حيث يعد التغيير والتطوير من أهم سماتها، هذا مسوغ، والمسوغ الآخر، كي يواكب التعليم متغيرات العصر ومستجداته، وأخص منها ما له علاقة بالإنسان وتكوينه وتلبية حاجاته المتجددة، وهذا ديدن الدول التي تتطلع إلى التفوق، دائما ما تضع التعليم نصب أعينها باعتباره المدخل الصحيح لتحقيق الغايات التي تنشدها في الأجيال القادمة، وبهذا تحقق هذه الدول السيادة والتربع على المصاف الأول في المنافسة والتقدم بكل صوره ومجالاته.
ولكن هل يكتفى بالمناداة؟، وهل الرغبة وحدها كافية؟، الجواب حتما لا، ومع هذا تعد المناداة والرغبة أحد المؤشرات الرئيسة التي يجب أخذها في الاعتبار لكونهما تعبير عن عدم الرضا العام عن وضع التعليم ومخرجاته، مما يستوجب من المسؤولين التفاتة مستعجلة للبدء في الإصلاح والتطوير، وفق المنهج المعتبر في عمليات الإصلاح والتطوير، والأسس العامة التي يجب أخذها في الحسبان عند العزم على ذلك.
ولعله من بدهيات القول ونوافله أن كل الدول التي حققت إنجازات ملموسة في تطوير التعليم وأضحت مضرب المثل في هذا المجال، بدأت برؤية وطنية مبنية على أسس صحيحة من دراسة الواقع وتحليل احتياجاته، ومعرفة واسعة بالتجارب العالمية الناجحة وأسس بنائها ومتابعتها وتقويمها، فالحكمة تقتضي البدء من حيث انتهى الآخرون، وفي اقل الأحوال الاستفادة من محاولاتهم وتوظيفها في الجهود المزمع البدء بها في عمليات الإصلاح والتطوير، يوازي هذا ويتبعه تحديد للتطلعات والغايات المنشودة، ومن ثم تتويجه بقرار سياسي داعم من القيادة العليا في تلك الدول، فإصلاح التعليم ليس منوطا بالموظفين العاملين في جهاز وزارة التربية والتعليم وحدهم، بل يجب ألا يستأثروا بذلك لكونهم داخل الغابة، وغالبا ما تكون رؤيتهم قاصرة، وفي جل الأوقات متحيزة، في حين أن إصلاح التعليم وتطويره أمر مجتمعي يحتاج إلى رؤية واسعة صائبة طموحة واضحة المعالم والغايات، محددة المراحل والخطوات، تأخذ في الحسبان متطلبات كل المكونات الرئيسة في المجتمع.
وحسب علمي فإن من أكثر محاولات إصلاح التعليم وتطويره تمت في عهد الوزير الأسبق محمد بن أحمد الرشيد - رحمه الله - سواء من حيث جدية المحاولة، ومن حيث السعي الصادق الدؤوب، والمنهجية المحكمة، أو من حيث الجهود التي بذلت في صناعة الرؤية والبرامج والخطط المحققة للرؤية، فقد أرسل الوفود إلى جل الدول المتقدمة شرقاً وغرباً، أذكر منها على سبيل المثال، أستراليا وكوريا واليابان وسنغفورة، وبريطانيا وأمريكا وفرنسا.
أعد كل وفد تقريرا وافيا بما تبين له من أوجه التميز في النظام التعليمي في هذه الدول، وخلاصة التجارب التربوية والممارسات التعليمية المفيدة، وتم طبع هذه التقارير في كتاب على أمل توظيف مضامينه في الخطط التطويرية المزمعة.
وجاءت إدارة جديدة للوزارة، ويبدو أنها لم تكتف بما تم إنجازه والخلوص إليه في العهد السابق، فأرسلت وفودا أخرى إلى عدد من الدول، لتأتي بما جاء به من سبقهم، وأعدت التقارير كالعادة، وصنع لها رف جديد تستقر فيه ليعلوها التراب، وجاءت إدارة جديدة للوزارة، ونهجت النهج نفسه زيارات تلو زيارات انتهت إلى تقارير وضعت على الرف كالعادة يعلوها التراب.
آن الأوان للتوقف عن « الطورقة «، وسفك ماء الوجه تحت ذريعة الوقوف على تجارب الآخرين، وعلى وزارة التربية في عهد قيادتها الحالية الحازمة الفطنة، أن تصنع رؤيتها لإصلاح التعليم وتطويره وفق ما لديها من معطيات أجزم أنها كافية لتحقيق الآمال المنشودة لصناعة تعليم منافس ليس على المستوى الإقليمي فحسب بل على المستوى العالمي إن شاء الله.