كثيرة هي سمات الطفولة وخصائصها، وكلها سمات جميلة لطيفة محببة إلى النفس، فيها البراءة بأجلّ صورها، وفيها أنواع الانفعالات البسيطة والحادة والمتناقضة، والتحولات المتسارعة، فمن حالة البكاء المرّ، إلى حالة الضحك المشرق، ومن الغضب والصراخ، إلى السكينة والهدوء، لا حقد ولا كراهية، لا إعراض ولا تدابر، لا مكائد ولا احتقار، بل تنقل سلس وفي ثوان معدودة من حالة انفعالية إلى حالة مناقضة لها تماما، مع تناسٍ تام لكل الأسباب التي دعت للحالتين.
وعلى النقيض من حال الأطفال صغار السن، تبدو حال البالغين كبار السن، حيث التعقيد والعنف والحدة والقسوة والتطرف والغضب، فعلاقة الكبار مع بعضهم علاقة معقدة، حيث يغلب عليها سمة الجدية، الكبار مثل الجمال يحملون في أنفسهم الغيظ، ويكبتون الغضب، لا يغفرون ولا يتسامحون، لا ينسون الإساءة أبدا، يتحينون الفرصة للأخذ بالثأر ورد الاعتبار، تطول حالة التدابر والبغضاء بينهم، وإن جامل البعض منهم الآخر تبقى النفوس من الداخل متوترة مضطربة, مشحونة مستعدة للانفجار كالبركان لأتفه الأسباب، هكذا هي طبيعة الكبار وحالهم، تتحكم فيهم العواطف وتقودهم الانفعالات إلى سلوكيات قد تخرجهم من طابعهم البشري إلى طابع حيواني آخر لا علاقة له ببني البشر إطلاقاً.
وسمة الكبار حين تتوتر العلاقة بينهم، وحين يختلفون فيما بينهم، أنهم يتدابرون ويقاطع كل منهم الآخر، وهي حال تختلف تماما عن حال «الأطفال»، فالأطفال تجدهم في الصباح أصدقاء أحباء، يمزحون ويمرحون، يلعبون معاً لعبة «الطاق طاقية» أو لعبة «البور»، ولأمر بسيط وربما تافه ينشأ بينهم خلاف، يتعاركون بالأيدي، وبالسباب والكلام المؤذي الجارح، ويبدأ كل منهم يبحث في قاموس ذاكرته يعير الآخر ويتندر به، ويبدي مساوئه ومثالبه، ولا يترك أحدهم شاردة ولا واردة يعرفها في صاحبه أو عن المحيطين به من الأهل والأقربين إلا ورفع بها الصوت عالياً ليسمع كل من حوله، إمعاناً في التشويه الإيذاء والإذلال، لكن الكبار يطول بينهم مقام القطيعة، وتتعدد صورها، وتتعقد ومجالاتها، وتحتاج المياه حتى تعود إلى مجاريها المزيد من الوقت والوقت.
ميزة الأطفال أنه على الرغم مما يحصل بينهم من غضب وتدابر، يعودون مستعجلين إلى سابق عهدهم من البشاشة والصداقة، يتناسون تماماً كل ما حصل بينهم، بل إنك تعجب من حال الود التي تجللهم، والانسجام والوفاق التام بينهم، مع أنهم بالأمس كاد بعضهم يؤذي الآخر بدنياً بكل ما يستطيع من قوة، وبكل ما يقع تحت يده، وإنك لتعجب من جرأة بعضهم على استخدام أدوات خطرة مؤذية، ولهذا تعارف الكبار على أنه مهما حصل بين الأطفال الصغار، يجب ألا يؤخذ مأخذ الجد، وأن أصدق صفة تطلق على ما يحصل بينهم أنها «هوشة بزران».
ويستشف من «هوشة البزران» أن الخلاف بين الأطفال لا يبعد بعيداً، وأنه رغم قسوة الخلاف بينهم وحدته، إلا أنه خلاف ساذج مؤقت، ثوان معدودة وتنقلب الحال إلى أخرى مناقضة للأولى تماماً، وبالتالي يجب ألا يتم التعامل مع «الهوشة» بجدية، أو الانسياق وراء ما قد يترتب عليها من صور الإيذاء المادي أو المعنوي، ولهذا كان العقلاء لا يتدخلون ولا ينساقون وراء عواطفهم في تغليب طرف على آخر، ولا يتعاملون مع «هوشة البزران» بجدية، لأنهم يعلمون أن الأطفال سوف يخذلونهم ويحرجونهم على أية ردة فعال أو موقف يتخذونه تجاه ما حصل بينهم، لهذا جرت العادة أن الكبار ينأون بأنفسهم عن «هوشات البزارين» حتى لا يخسروا بعضهم.
دروس ما أجدر الكبار أن يتعلموها من الصغار، وعلى الكبار أن يعلموا ألا محبة مطلقة، ولا بغضاء مطلقة، لهذا قيل:
أحبب حبيبك هونا ما
عسى أن يكون بغيضك يوماً ما
وأبغض بغيضك هوناً ما
عسى أن يكون حبيبك يوماً ما