هو معالي الشيخ الوقور، الخلوق، الكريم، الأديب، الفقيه، سريع الدمعة، لين العريكة، طلق المحيا، كريم الخصال، محل ثقة العلماء والأمراء راشد بن صالح بن محمد بن خنين من عائذ من قبيلة قحطان، ولد - رحمه الله - في الدلم عام 1344هـ نشأ وتعلم فيها، وكان من شيوخه الإمام عبد العزيز بن باز - رحمه الله - حيث قدم الشيخ الدلم قاضياً في عام 1357هـ واستمر حتى عام 1371هـ فكان قدومه مكسباً عظيماً لأهل تلك الديار، خصوصاً طلبة العلم، كان الإمام عبد العزيز بن باز - رحمه الله - يجلس للتدريس والتعليم والإفتاء مع قيامه بمهمة القضاء، وكان ممن لازمه ملازمة اختلطت بنفسه الشيخ راشد بن خنين - رحمه الله - عرف ذلك القاصي والداني، حتى أن الشيخ المفضال عبد الرحمن بن عثمان بن جاسر - رحمه الله - وقد زرته في مرضه الذي مات فيه، كتب إلى الشيخ راشد بقصيدة يذكر له قوة صلة الشيخ راشد بالشيخ ابن باز وتأثره به وسيره على نهجه يقول فيها:
يا راشد عُرِفتْ بالرشد سيرتُه
وأصبحت مثلاً يجري بها المثلُ
معين نهر الهدى بالعلم مَيَّزهُ
فضل ابن باز لكم طبع وممتثل
بالعلم والفضل والأخلاق قدوتكم
شيخ جليل لنا من نهره نَهَلُ
كان التواضع من أسمى فضائله
وفي تواضعكم من شيخكم مثل
وصدق غفر الله لهم جميعاً، كيف لا وقد لزم الشيخ راشد سماحة الشيخ ابن باز سنوات، ومما استفاد الشيخ راشد من الشيخ ابن باز الغيرة على التوحيد والسنة، فقد رد على صاحب الأغلال رداً أعجب العلماء ولم يبلغ من عمره - رحمه الله - ثلاثا وعشرين سنة، وقد كتب سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - كتاباً جاء فيه: (لما قرأت هذه القصيدة السديدة التي أنشأها الفهم الأديب واللوذعي الأريب، الشاب الفاضل راشد بن صالح بن خنين - زاده الله علما وفهما - وجدتها قد وافقت الحق الذي يجب اعتقاده في هذا الباب، وزيفت كثيرا من أضاليل هذا الزائغ المرتاب...)، وقد ختمه الشيخ عبد العزيز بن باز، بقوله: (ولقصد تأييد ما دلت عليه هذه القصيدة من الحق وتزييف أباطيل هذا المارق والتحذير من خطئه لئلا يغتر به حررت هذه الأحرف، وأنا الفقير إلى الله تعالى عبد العزيز بن عبد الله بن باز قاضي الخرج، سامحني الله وغفر لي ولوالدي ومشائخي وجميع المسلمين . وصلى الله على محمد عبد الله ورسوله وعلى آله وصحبه وسلم سنة 1366هـ).
وقد يسّر الله الاجتماع بالشيخ راشد - رحمه الله - أكثر من مرة، وفي أول لقاء لي مع الشيخ كان الموعد خاصاً نسقه أحد المشايخ الفضلاء النبلاء، فاجتمعنا بالشيخ في منزله ولم يكن في المجلس إلا الشيخ وابنه وزميلي الكريم (مرتِّب الموعد) وكاتب هذه الأحرف، فلما دخلنا مكان الجلوس إذا بالشيخ الوقور بأحلى حلة قد زانه الشيب فسلمنا عليه فرحب بنا أجمل ترحيب، ثم جال بنا في بعض ذكرياته - رحمه الله - سألته عن الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - وما أعطاه الله من هيبة فقال: كان الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - مهيباً أذكر مرة أنه كان على موعد سفر لمدة أيام للحجاز، وكنت أتمنى أن أذهب معه فلم استطع أن أُكلِّمه هيبة له! فكتبتُ أبياتاً دفعتها لقارئ حوله فقرأها عليه وفيها طلب الذهاب معه، فلما سمعها الشيخ: أجاب بقوله على وزنها:
أهلا ثم أهلا ثم أهلا
مساعينا بمثلك لن تضيقا
ثم جاء ذكر سماحة الشيخ عبد الله ابن حميد - رحمه الله - وما كتبه من رثاء عنه، فدفع قصيدة إلى صاحبي وأخبرنا أنها لم تنشر من قبل ولم يعطها أحداً، وقد أخذتُ صورة منها، وزودتُ شيخنا العالم د . أحمد بن حميد - حرسه الله - بصورة منها، قال الشيخ راشد وهو بالطائف راثياً سماحة الشيخ عبد الله بن حميد - رحمهما الله - وقد أرخها بخطه في 14 - 12 - 1402هـ:
أشمس الكون كدرها كسوف
أم البدر المنير به خسوف
أم الشيخ الجليل قضى لنحب
وكل الناس تدركهم حتوف
وموت العالم النحرير ثلم
ولا يقوى على السد الألوف
رئيس للقضاء بنا تقضى
وقد أودى به مرض مخوف
رصين الرأي ذو علم وحلم
مهيب ثابت حبر ألوف
طويل الباع في الفتوى إمام
بنشر العلم مهتم شغوف
يغار لدينه ويذود عنه
وبالحسنى على خصم ينوف
ويلقي الدرس في حرم فيصغي
فئام الناس أقصاهم وقوف
تلقاه الاله بفيض عفو
وجنات بها تدنو القطوف
ونرجو ربنا خلفا تقيا
له قلب عن الأهوى عزوف
وأمر الله ليس له مرد
رضينا بالذي يقضي الرؤوف
وفي المجلس نفسه جاء السؤال عن سماحة الشيخ ابن باز - رحمه الله - فاغرورقت عينا الشيخ راشد بالدموع، بل لعلها دمعت، وتغير صوته فقيل له: هل رثيتم سماحته بقصيدة؟ فأجاب غفر الله له: لم استطع المصاب أكبر من ذلك.
حدثني أحد المشايخ الفضلاء أن الشيخ غفر الله له كان يذهب بنسخة كتابه (بلوغ المرام) معه في السفر، حيث إنه من أعز كتبه لديه! لأنه قد حوى ما علّقه من دروس سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - وفي مرة ذهب به إلى جدة وسكن في فندق مشهور ثم غادر الفندق وقد نسي الكتاب في سكنه بالفندق! فلما رجع إلى الرياض فقد الكتاب فبحث عنه فلم يجده فاتصل بالفندق فبحثوا عنه في نُزُل الشيخ فلم يجدوه، فاغتم واهتم كأن مصيبة حلت به - رحمه الله - وبعد مدة عرض له سفر إلى جدة وسكن الفندق نفسه ومازال همّ فقْدِ الكتاب في خاطر الشيخ، فلما حلَّ وقت الصلاة نزل للمصلى فوجد بين المصاحف كتاباً فتناوله فإذا هو كتابه! فشكر الله وحمده.
كان الشيخ - رحمه الله - شاعراً خفيف الظل، حاضر البديهة، يقول مجيزنا الشيخ علي بن قاسم الفيفي القاضي بمحكمة تمييز سابقاً غفر الله له: في عام 1409هـ ضمتنا الصالة الملكية بقصر السلام في جدة وكنت على مقربة من شيخنا معالي الشيخ راشد بن خنين، فناولني بواسطة أحدهم كرتاً مكتوباً عليه هذا البيت:
عليٌ بلا فيفا وفيفا بدونه
فكيف استطاعا العيش بعد التفرقِ
يقول الشيخ علي فكتبت تحته:
مقادير ربي في اجتماع وفُرْقة
ومكة أولى يا أخي بالتعلقِ
فكتب تحتهما:
صدقت هنيئاً بالمقام ببكة
ولا تنس فيفا من لقاء ومنطق
فحركت هذه الأبيات قرائح شعراء فيفا وأولهم الشيخ علي غفر الله له، فكتب قصيدة جاء فيها:
لقيتُ صديق العمر رمز التفوق
سليل المعالي في الرحاب المفوَّق
رحاب مليك ثاقب الرأي راشد
أبي فيصل فخر البلاد الموفَّق
فداعبني بالقول شعراً أثارني
وحرَّك وجداني بحسن ترفُّق
«عليٌ بلا فيفا وفيفا بدونه
فكيف استطاعا العيش بعد التفرقِ»
فقلت وقد جالت بذهني خواطر
مجيباً وكاد العي يحبس منطقي
«مقادير ربي في اجتماع وفُرْقة
ومكة أولى يا أخي بالتعلقِ»
فجاوبني في الحال نُصْحا وقال لي
مقالة خِلٍّ صادق الود مشفق
« صدقت هنيئاً بالمقام ببكة
ولا تنس فيفا من لقاء ومنطق»
فقلت وهل ينسى حبيب حبيبه
وكم من بِعادٍ مُشعلٍ للتحرق
قد تولى الشيخ راشد - غفر الله له - أعمالاً كثيرة، فقد درس بالمعهد العلمي بالأحساء ثم بالمعهد العلمي بشقراء ثم عُيِّن قاضياً بمحكمة الرياض، ثم وكيلاً لوزارة العدل ثم عين بعد ذلك في منصب الرئيس العام لتعليم البنات وله أبيات يطالب وزير الكهرباء بتوفير بعض الخدمات اللازمة، فمما قاله:
غزانا الصيف يا غازي فجودوا
بتيار يكيف للمدارس
بنات الناس في قلق ويغشى
على بعض فرفقاً بالعرائس
فلما لم يأت رد على طلبه كتب:
تمام الحول قارب لم تجيبوا
ولم تُجْزُوا المماطل والمعاكس
كلام الناس في هذا كثير
وأنت الشهم تنفي للوساوس
فمرهم عاجلاً يأتوا بسلك
يبرد أو يبدد للحنادس
وعهدي فيكم حزم وعزم
ودور العلم أولى من منافس
ونرجو الله إصلاحاً سريعاً
لأجهزة الدوائر والمجالس
وختم القول تذكير وشكر
لغازي الشعر والرجل الممارس
فأجابه الوزير غازي القصيبي - غفر الله لهما - بقوله:
رعاك الله يا شيخ المدارس
وصانك للصغيرات العرائس
وأما بعد رقعتكم أتتني
تعاتبني فهاجت بي الهواجس
وملءُ عتابكم ودّ وحبّ
يحيط به من الأشواق حارس
ويدري الله كم يدمي فؤادي
عذابُ صبيةٍ والحرُّ عابس
وحر الصيف بالأبطال يودي
فما بال الرقيقات الأوانس؟
وعذري - إن قبلت العذر - إني
أمارس من بلائي ما أمارس
توسعت الرياض نمت فصارت
(كلندن) في تشعبها و(بارس)
ففي حي (النسيم) شكت ألوف
تنادي في الدجى والليل دامس
ثم بعد رئاسة البنات عين مستشار في الديوان الملكي، كما أنه عضو في هيئة كبار العلماء منذ تأسيسها وقد توفي عن عمر واحد وتسعين سنة، رحم الله معالي الشيخ وغفر له وأخلف على المسلمين خيراً وأصلح عقبه وجزاهم خيراً في التعجيل بجنازته، حيث لم يعلم الناس بوفاته إلا قبل ظهر يوم الأحد الموافق 13 - 6 - 1435هـ وتم دفنه في عصر اليوم نفسه تغمده الله برحمته وجميع المسلمين.