الصحافة السعودية المحلية فيها شيء ما من حراج ابن قاسم الواقع جنوب مدينة الرياض. حراج ابن قاسم مدهش بما يقدمه لمن يبحث عن أي شيء. لو كان لديك نصف شيء قد فقدت نصفه الآخر، اذهب إلى حراج ابن قاسم وسوف تجد حتما النصف الغائب بأي حجم وبأي لون تريد. إذا كنت تبحث عن شيء لم تجده في الأسواق العالمية، أي شيء حتى لو كان مركبة فضاء أو خف حنين أو رمح أبي زيد الهلالي أو حتى ناقة عمتنا البسوس، اذهب وابحث في حراج ابن قاسم ولن تندم، فسوف تجد حتما ما تبحث عنه.
المشكلة الوحيدة في حراج ابن قاسم هي التصنيف وغياب ترتيب البضائع في الأماكن المخصصة لها ليسهل العثور عليها. على المتبضع هناك أن يسأل باستمرار عن الأشياء والأماكن، وأن يتحايل في التنقل بين أكوام المعروضات حتى يصل إلى ضالته.
هذا الخليط المدهش يدل على ديمقراطية عشوائية في حراج ابن قاسم ناتجة عن عدم الخضوع لأية قيود تنظيمية أو نظام زكوي أو رقابة نوعية. عليك أن تحمد الله حين يكون لك كامل الحرية في أن تبيع وتشتري على كيفك وتتحرك كما تريد بين المضائق والمنعطفات والباعة والمتسوقين، لكن عليك فقط التقيد بما هو معروف بالضرورة في كل الدول العربية والإسلامية فلا تتدخل في السياسة.
هذا الوضع التشكيلي البديع، اختلاط الحابل بالنابل والقديم مع الجديد والممكن إلى جانب المستحيل، يشبه تماما الصحافة المحلية بما في ذلك عدم الخوض في السياسة. الآن وصلت إلى مربط الفرس الذي هو الهدف من كتابة هذا المقال.
كان أول من سألني لماذا اخترت الكتابة في صحيفة الجزيرة المحلية الدكتور عبد المحسن العكاس رحمه الله. هو كان يكتب في صحيفة الشرق الأوسط، وله رأيه الخاص عن الكتابة في الصحافة المحلية، أقصد الداخلية التي لا تطبع ولا تقرأ في الخارج. سألته من باب الإجابة عن السؤال بسؤال، وأنت يا صديقي عبد المحسن لماذا تكتب في الشرق الأوسط؟. كان جوابه يتعلق بهامش الحرية والانتشار الأوسع والثقافة الأعمق. خلال نقاشنا الهاتفي حاولت إقناعه بالواجب والأفضلية في أن من يعتقد بنفسه امتلاك فكر يريد إيصاله عليه محاولة توصيله إلى من قد يحتاجه، وليس إلى من هم على نفس القناعات والرؤى الفكرية.
قلت له إن المتوقع من كاتب الرأي الكتابة للغالبية من المواطنين الذين لا يقرأون سوى الصحافة المحلية، وإن ظاهرة كتابة النخب الثقافية فيما يسمونه صحافة النخبة لا تتعدى أن تكون ترفا استهلاكيا واستعراضا جماليا لأنفسهم أمام بعضهم البعض، وأمام من يرونهم على نفس المقاس الثقافي والفكري. الهدف التنويري من الكتابة في هذه الحالة يصبح لاغيا، لتحل محله ظاهرة الاستعراض والظهور.
تكرر مثل هذا النقاش في نفس الموضوع بيني وبين أصدقاء عديدين من كتاب الرأي وقراء ما يسمى صحافة النخبة، فلم أقنعهم ولم يقنعوني.
والآن، ما دخل صحيفة الجزيرة التي أكتب فيها في الموضوع؟ أعتقد، غير متحيز، أن صحيفة الجزيرة تمتلك أوسع انتشار شعبي محلي للصحافة السعودية، وتقدم للقراء أكبر تشكيلة نوعية من الكتاب، علاوة على أنها تحقق لملاكها ومساهميها أكبر الأرباح من الإعلان التجاري، لكنها تفتقد إلى التالي: التبويب الاحترافي، والفرز النوعي بين البضاعة الفكرية الجيدة والرديئة بما يتعدى كثيرا حدود الحياد ويدخل في باب المجاملة الاجتماعية والاستهلاكية، كما أنها تفتقد التصنيف المتخصص لمحتوياتها لتخلط (أحيانا) السياسي بالاجتماعي بقصائد المدح بالاستجداء ، مع أخبار الوفيات وإعلانات العزاء، علاوة على إلصاق الإعلانات التجارية بألوانها الفاقعة المنفرة إلى جوار كتابات الرأي وأخبار المناسبات الثقافية.
على كل حال، ليست هذه خصوصية تحتكرها صحيفة الجزيرة، لأنها واقع الحال في كل صحفنا المحلية، لكن الجزيرة تهمني شخصيا فأنا أكتب فيها، وأتمنى لها إخراجا وفرزا وجودة نوعية أكثر احترافا في القريب العاجل.
إن كان ثمة عامل مشترك مؤكد بين الصحافة المحلية وحراج ابن قاسم فهو كثرة المتسوقين من الطبقات الشعبية غير المرفهة، بمعزل عمن يصنفون أنفسهم نخبويين. لهذا السبب بالذات أكتب في صحيفة الجزيرة، لكنني أحتفظ بإبداء الرغبة الملحة في إدخال التغييرات النوعية كواجب مهني يفرضه الالتزام بالمستوى الفكري والمعرفي الراقي للقارئ المحلي، بكل الوسائل المتاحة، مع الاحتفاظ بديمقراطية حراج ابن قاسم.